عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    11-Jan-2019

الموسيقى الدّاخليّة في شعر زكريّا داود

 الدستور-هداية الرّزوق

الشّاعر الأستاذ الدّكتور (زكريّا فريد داود الحصان) من بورين – محافظة نابلس، نشأ وترعرع في مدينة حيفا، حصل على شهادته الثّانويّة من الكليّة الرّشيديّة في القدس عام 1948م، ثمّ انتقل إلى مدينة دمشق حيث تخرج في كليّة الطّبّ في جامعة دمشق عام 1957م، وتخصّص في الأمراض الباطنيّة في جامعة لندن عام 1964،  ثمّ تابع الدّراسة ليكون أوّل أستاذ في أمراض القلب في الأردنّ عام 1978،  وشارك في تأسيس كليّة الطّبّ في الجامعة الأردنيّة في الفترة الواقعة بين عامي  1971 - 1973 ومستشفى عمان الكبير/ الجامعة حاليّاً، وعمل فيها أستاذاً جامعيّا حتّى عام 1995.
عمل الأستاذ الدّكتور (زكريّا داود) وعلّم وزامل الكثير من أعلام الطّبّ في الأردنّ، وهو عضو وزميل للعديد من كليّات الطّبّ الأردنيّة والبريطانيّة والأمريكيّة والفرنسيّة، صدر ديوانه الشّعريّ (الأعمال الشّعريّة الكاملة... خفق الفؤاد من القدس إلى بغداد) عن داريافا العلميّة للنّشر والتّوزيع عام 2009؛ إذ يقول الأستاذ الدّكتور في مقدّمة ديوانه: «من خلال ركام جسد الأمّة العربيّة المتحطّم، ومن خلال حجب ظلامها الدّامس، انبثق شعاع الانتفاضة الفلسطينيّة ليبعث الأمل في بعث جديد لتحرير الأرض، واستعادة المقدّسات»، وقد ضمّ ديوانه الشّعري 68 قصيدة تحدّث فيها عن مُجمل تجاربه ومشاعره وترحاله، والحال الّذي عاشته الأمّة بتفاصيله وحيّثياته.
وتتجلَّى الموسيقى الداخلية عن طريق عدَّة وسائل تُكوّن الإيقاع الدَّاخلي وتُساعد على إبرازِ النَّغم الموسيقيّ، منها: الجناس والسجع والطباق والمقابلة والتصريع والتكرار، وقد بدا ذلك واضحاً في ديوان الشّاعر (الأعمال الشّعريّة الكاملة... خفق الفؤاد من القدس إلى بغداد).
فيظهر الجناس أو التَّجنيس والّذي يعدّ واحداً من أبرز الوسائل اللّغويّة لتكثيف النّغم الدّاخلي، وإحداث نغمات موسيقيّة مُتصاعدة.
وقد أورد الشّاعر الأستاذ الدّكتور (زكريّا داود) في  قصيدة «سجين فلسطين» الجناس بحيث وردت كلمة «مَقعد» بمعنى الكرسي المتحرّك، و»مُقعد» بمعنى الرّجل المشلول، كما يظهر ذلك جليّاً في قصيدة «هل نرتوي» حيث أورد الشّاعر كلمة «سحر» لوصف جمال المحبوبة ليلى تارة، وتارة للتّعبير عن وقت السَّحر. 
وفي قصيدة «ليلى» استحضر الشاعر كلمة «عليل» ليصف من خلالها السّقم الكامن في فؤاده، في حين استعار الشّاعر المفردة ذاتها ليصف الهواء المنعش الرّقيق.
وقد يكون الجناس جناسًا غير تام أو ناقص، وهو ما اختلف فيه اللّفظان في واحد أو أكثر من نوع الأحرف وعددها وهيأتها وترتيبها، حيث أبدع الشّاعر في توظيف هذا النّوع حين استعمل لفظ «رقيق» لوصف جسم حبيبته، ولفظ «دقيق» لوصف خصرها.
ونجد ذلك في  قصيدة «مناضل فلسطين» إذ أورد الشاعر لفظتي «يغشى» و»يخشى»، وورد ذلك جليّاً في قصيدة «هزيمة أمة» حين عمد الشّاعر إلى استخدام لفظتي «قليل» و»ذليل».
وبذا نلاحظ أنّ الجناس في ديوان داود يحدث نغماً موسيقياً يثير النفس وتطرب إليه الأذن، ويؤدِّى إلى حركة ذهنية تثير الانتباه عن طريق الاختلاف في المعنى، ويزداد جمالاً لأنّه نابع من طبيعة المعاني التي يعبر عنها الشاعر، فلم يكنْ متكلَّفاً مبتذلا لا قيمة لها.
أمّا السَّجع فهو الكلام المقفى، إذ يتألف أواخر الكلام على نسق كما تأتلف القوافي. وهو وسيلة أُخرى من الوسائل اللّغويّة الّتي تولّد هزّات وذبذبات بسبب ترديد صوت الحرف، فيُحدث موسيقى رنّانة وإيقاع منغمي جذّاب. فيكون الكلام المقفّى أو موالاة الكلام على روي واحد. 
كمثل ما جاء في قصيدة الأستاذ الدّكتور (زكريّا داود) الموسومة بعنوان «الله أكبر» إذ أورد الشاعر لفظتين «صالوا وجالوا»،كما اتكأ الشّاعر على ذلك في توظيفه اللّفظتين (أنواري وأقماري) الواردتين في قصيدة «رثاء أمّة».
وإذا ما انتقلنا إلى الطباق فلا بدّ أن نشير إلى كونه جمعاً ما بين الكلمة وضدّها، وهو نوعان: طباق الإيجاب: كلمتان مختلفتان في اللفظ لا نفي في إحداهما، طباق السلب: كلمة واحدة تأتي مرة مثبتة وأخرى منفية؛  حيث وردت في قصيدة «يا موطن الإسراء»كلمتي « الصبح» و»الإمساء»، أمّا قصيدة «الطامح» فقد وردت كلمتا «حلو» و»مرّ»، إلى جانب ورود كلمتي «هضاب» و»وادي»، في حين ظهر استخدام الشّاعر للطّباق في قصيدة «مناجاة» حين استعار الشّاعر كلمتي «بعدي» و»قربي». 
وحريّ بنا أن نشير إلى توظيف الشّاعر للمقابلة؛ وهي أن يؤتى بمعنيين أو أكثر ثمّ يؤتى بما يقابل ذلك على الترتيب، فقد ورد في قصيدة «الطامح»  العبارة: «لا بد من كدر يشوب حياتنا...تتلوه أفراح وحلو مشارب»، كما ووردت المقابلة  في قصيدة «نسيم فلسطين» في البيت الشّعريّ: «وهي النعيم ببردها وسلامها..وهي الجحيم لغاصب متمرد».
وقد أبدع الشّاعر في تلوين قصائده بالتصريع؛ وهو توافق نهايتي الشطرين في البيت الشعري ويكون في مطلع القصيدة، وأمثلته كثيرة في ديوان شاعرنا، نذكر منها ما ورد في قصيدة «هزيمة أمة»: «لا تعذليني فالرجال قليل...وكبير قومي إن سألتِ ذليل»، وفي قصيدة «ذكرى الهجرة النبوية»بين الزهور تمايلت بدلال...وتقدمت نحوي كطيف غزال»، أمّا في قصيدة «المحبوبة هي فلسطين»: «يقولون لي أنا نراك نحيلا...لم يبصروا قلبي الجليل جليلا». 
وإذا ما انتقلنا إلى المكوّن الأخير من مكوّنات الموسيقى الدّاخليّة فلا بدّ لنا من الوقوف عند التّكرار؛ إذ تتشكل ظاهرة التكرار في الشعر العربي بأساليب مختلفة متنوعة فهي تبدأ من الحرف وتمتد إلى الكلمة وإلى العبارة وإلى بيت الشعر وكل شكل من هذه الأشكال يعمل على إبراز جانب تأثيري خاص للتكرار، أما التكرار عند داود فهو صورة لافتة للنظر، تشكلت في ديوانه ضمن محاور متنوعة وقعت في الكلمة وتكرار البداية وتكرار اللازمة.
تشكل الكلمة المصدر الأول من مصادر زكريا داود التكرارية، وكان حريصاً أن يجعل من هذه الأصوات أو الكلمات قوة فاعلة – أحياناً – للتعبير عن العواطف الجياشة التي يكنها لمحبوبته، وأحيانا لإيقاظ الحسي القومي والثقافي في أبناء عصره، وبعث الهمة والتبصير بالواقع وكشف زيفه، لذلك نراه يركز على الجملة الفعلية أكثر من الجملة الاسمية فالأولى قادرة على التأثير والتغيير وأكثر قدرة على استيعاب الأحداث التي يعيشها الشاعر بينما الجملة الاسمية ذات طبيعة ساكنة هادئة. ومن الأمثلة على تكرار الكلمة: تكرار مفردة «شقراء» الّتي تكررت خمس مرات في قصيدة «شقراء»، وتكرار لفظة  «قرار» خمس مرات في قصيدة «يوم فلسطين»، أمّا كلمة  «القدس» فنجد أنّها تكررت أربع مرات في قصيدة «يا قادة الإسلام»، في حين وردتمفردة «طفل» ست مرات في قصيدة «نشيد فلسطين».
ونذكر أيضاً أنّ لتكرار «الفعل» حضور فاعل عند الشاعر، وذلك لتزاحم الأحداث التي مرت في حياته، وكثرة المصائب والهموم التي واجهته، فكان الفعل أكثر قدرة على التعبير عن هذه التحولات الزمانية بأشكالها المختلفة لنقل تجربته الخاصة به لتثير إحساساً لدى المتلقي، فقد وظّف الشّاعرتكرار الفعل ليجعل منه حدثاً فاعلاً سواء أكان ماضياً أم حاضراً أم مستقبلاً، وليستوعب جزئيات حياته وهمومه وآلامه وجاء ذلك بشكل رأسي يعمق إحساسه بهذه الهموم ويحفر في عمق النص بشكل متوال عبر طرائق أسلوبية منها توظيف فعل الأمر:»تعالي» إذ عمد الشّاعر إلى تكراره في قصيدة «مناجاة.. إليها» ثلاث مرات: «تعالي واسمعي» مرتين و»تعالي أنت»، وشكّل من هذا الفعل وحدة صوتية موسيقية ذات إيحاءات ثابتة باتجاه المناجاة التي وسم بها قصيدته.
كما لجأ الشّاعر إلى تكرار الفعل «ناوليني» خمس مرّات  في قصيدة «متفرقات»؛ إذ يمكن تأويل التّكرار من خلال الدّال والمدلول في إطار العلاقات السّياقيّة.
ويمكن للقارئ الحاذق الانتباه إلى ورود الكثير من الأفعال المضارعة بصيغة الجزم في ديوان الشاعر داود، وهذا يدل على صبغة الحزم والجدية في طرح العديد من القضايا في قصائده، وحسم موقفه من تلك القضايا، إضافة إلىاشتباك الصّور والتّراكيب اللّغويّة، فالتّكراريعكس ما لدى المبدع من تصوّرات للمدلولات الحسيّة والفكريّة والنفسيّة،  حيث كرّر «لا تعذليني» في قصيدته «هزيمة أمة»أربع مرات، في حين لجأ إلى تكرار «لا تحزني» في قصيدة «بشراك بغداد» ثلاث مرات.
كما لجأ الشّاعر إلى تكرار الكثير من الجمل في القصيدة الواحدة من قصائده مرتين وأكثر، كما نلمح في العبارات الآتية:  «يا أيها الشيخ الوقور تحية» إذ تكررت مرتين في قصيدة «سجين فلسطين»،  وقد كرّر الشّاعر استخدام العبارة «أنا في الطريق» مرتين في قصيدة «على مرمى حجر»، أمّا جملة»صبرا فلسطين» فقد تكررت ثلاث مرات في قصيدة «مناضل فلسطين»، كما نجد ذلك مماثلا لتكرار عبارة «رفاق الصبا» ثلاث مرات في قصيدة «رفاق الصبا».
كما ونجد أنّ الشّاعر (زكريّا داود) يميل إلى تكرار اللازمة والّتي تعدّ مجموعة من الأصوات أو الكلمات التي تعاد في الفقرات أو المقاطع الشعرية بصورة منظمة، إذ تأتي على نوعين؛ اللازمة الثابتة وهي التي يتكرر فيها بيت شعري بشكل حرفي، واللازمة المائعة؛ وهي  تلك التي يطرأ فيها تغير خفيف على البيت المكرّر.
وبذلك نلاحظ أن ظاهرة التكرار موجودة بكثافة في ديوان داود، وهي إضافة إلى الأشكال السابقة من مصادر الإيقاع  الّتي تشكّل علامة بارزة تؤكّد لنا أن البنية الإيقاعية في ديوان داود غنية بمكوناتها وبدلالاتها.
لجأ شاعرنا إلى المزاوجة بين أنماط أسلوبية متنوعة وأنماط لغوية متعددة، جسّد في كل نمط نوعاً خاصاً من المعاناة وشرح من خلالها ما يدور في نفسه من حيرة وقلق واضطراب، ورفض وسخط لكثير من الأحداث الجسام التي مرت بأمتنا، فكانت وسائل مناسبة للتعبير عن هذه الهموم، ونجد أنّه ركز على  استحضار أسلوبي النداء والاستفهام؛ فشكل من أسلوب النداء جملة مركزية ثابتة ينطلق ليكشف ما يستقرّ في أعماقه من خلال حرف النداء (يا) الذي تكرر في معظم قصائد الديوان، ومن ذلك ما حضر بوضوح في قصيدة «يا قادة الإسلام أين؟» إذ نجد استخدام الشاعر لأسلوب النداء خمس مرات في القصيدة ذاتها: «يا ربّ»، و»يا قدس» و»يا قادة» الّتي تكررت ثلاث مرات؛ وهذا يشي بانفعال جلّي يتضّح من خلال السّياق ويكشف عن انغماس عميق يحيل إلى تأثّر الشّاعر بقضيّته وحال أمّته.