عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    09-Aug-2020

رايات.. الشاعر غسان زقطان

 

 أحمد الكواملة
 
الدستور- شاب زكراوي نحيل، منحته (زكريا) جينات وسامته، وألقت عليه كرامة غور الأردن سمرته اليعربية الرائقة،
 
عرفته معلما زميلا في مدارس وكالة الغوث / مخيم ماركا / شلنر (حطين حاليا).
 
مع الأسف لم تتجاوز صلتي به آنذاك أكثر من تحيات مقتضبات، كنت أتساءل عن سر تلك الصلة التي تربطه بزميل آخر، نحيفا وسيما وأنيقا مثله، غير انه ابيض البشرة، نسيت اسمه، كان هذا حول عام 1976 م تقريبا.
 
لم تمض شهور حتى اختفى غسان زقطان، عرفت لاحقا انه ارتحل إلى بيروت، وما أدراك ما بيروت.
 
كنت ذلك الوقت وقبلها بسنوات اكتب ولا انشر، وكان أن عرفته (غسان) شاعرا اثر صدور مجموعته الأولى المشتركة مع الشاعر (محمد الظاهر) عام 1977 م بعنوان (عرض حال للوطن)، ثم توالت على البعد إصداراته التي لم يصلني منها شيء، إلى عام 1984 م حيث وقعت بين يدي مجموعته الشعرية الرابعة (رايات)...
 
 شاعر صغير... بتجربة كبيرة...
 
بوضوح عال، تنجلي قصيدة (هجرة) عن شاعر صغير بتجربة شعرية كبيرة مبهرة، وبتقنية شعرية عالية، وبعتب هادئ مرير، يلوم رفاقا تركوا الساحة... ولم يتركوا لمن بقي ما يتيح لهم لحظة امن وسنة نوم:
 
كيف أن الرجال مضوا... كلهم
 
دون أن يتركوا قشة كي ننام
 
دون أن يتركوا
 
ولدا (في الحراسة)
 
قلما للكتابة
 
فحما لهذا البقاء المخيف!
 
... قبعة كي نخبئ شيب الهموم
 
يد كي نصافح
 
أو حكمة نستعين بها
 
كأنه يوبخهم... كأنه يقول لهم كيف انحدرتم من السحب العالية... كخيط النمل، أحذية صغيرة وقبعات منخفضة، قش أسرتنا على صوفهم الكاكي، وهم يغيبون في جوف (سنتوريني) سفينة الرحلة الغائمة :
 
كيف أن الرجال مضوا
 
خط من القبعات القصيرة
 
خط من الأحذية
 
وقش على وبر الصوف
 
 مدن... ضيقة...
 
بعبارات يلتظم بعضها ببعض وبرشاقة من يرقص على الجمر، يعلن الشاعر، أن المدينة بمصاعدها وطرقاتها وعماراتها وصحافتها وعزفها وأغانيها، غيرتنا، دمرت فرحنا وانطلاقنا الطفو لي، جعلتنا ننزوي في الحياة:
 
غيرتنا المدن
 
... المصاعد
 
...
 
مالت بنا الطرقات المائلة
 
...
 
دون أن نعترض
 
غيرتنا الصحافة
 
...
 
والأغاني التي تعصر القلب
 
حتى انتهينا إلى هذه الشرنقة...
 
حلم.... بصباح هادئ...
 
ببساطة ملهمة يعيش شاعرنا حالة مينولوج داخلي، وهو يطل من صباحه إلى طرقات الموت حيث:
 
لا قتلى في الطرقات
 
يوم هادئ
 
والسير عادي
 
وثمة فسحة لتشيع القتلى الذين
 
مضوا نهار أمس
 
ثمة فسحة لنضيف حلما
 
ولدا صغيرا
 
وردة لحبيبة أخرى
 
(حلم بحياة... مثل أي كائن، بيته، حجر او جدار..)
 
ثمة فسحة لنظل أحياء لبعض الوقت
 
تكفي كي أهزَّ يديك
 
(ينظر إلى هذا اليوم ككائن، يفعل ما يفعل البشر، يرقص، يعيق السير...)
 
يوم هادئ يمشي على قدميه في بيروت
 
يرقص في الطريق
 
يعيق سير الحافلات القديمة
 
...
 
(هكذا المقاتل يتشوف يوما تخرج فيه الجارة بكامل فتنتها...)
 
يوم هادئ
 
و السير عادي
 
و حارتنا ستخرج في قميص النوم
 
تنشر بيننا نعسا وصحوا فاترا
 
(وقبل أن يسترسل في حلم ذلك اليوم الهادئ، يعلن الصباح المغتر والغادر.... أيها الحالمون لن تمضوا إلى أي غاية، سيحملكم هذا الصباح إلى طرقات القتل...
 
وأنت تحلمون..)
 
أين يكون في هذا الصباح الشاسع والمغتر ؟
 
لن نمضي
 
يأتي من بياض قميصها سبب
 
ليحملنا إلى الطرقات
 
قتلى في (صباح الخير)...
 
 دهشة... ترقص الفراش
 
ببوح عال، يضيء الشاعر المقتل (غسان) ولهب اللحظة الغاشمة تحاصره، غير أن عينيه وقلبه يميلان إلى شجرة وحارس عجوز، يخاتل أوقاته، أرسل أنفاسه كنحلة علها تفر من مجزرة قادمة، علها تكسر سبب جمر الغارة القادمة، إنها روحة التي رغم مروره التعب، تجد لحظة للكلام الحميم، لرقصة الفراش، عله يمد ذاك الحرس العجوز بلحظة ابتسام وأمل...:
 
في فسحة التقاطع الأخير
 
في اللحظة الأخيرة التي يضيئها اللهب
 
حديقة لحارس عجوز
 
الوقت في يديه نحلة (عمرها قصير... وخيرها فياض..)
 
تفر خلسة
 
وتكسر السبب
 
...
 
وإذ أمر – بعد غارتين – متعبا
 
اشد من غلالة الحديث
 
مرحبا
 
سينحني كزنبقة...
 
 بلا صخب...
 
ينثر الرفيق دون كلام، كل ما يمكن أن يقول الشعر والشجر والمقتل العاشق، والرفيق الذي يؤثر على نفسه ولو هده الأسى، في متوالية باسقة وينثر شاعرنا (غسان زقطان) سفر من البوح والأداء، ضيق في العبارة،
 
سعة في الرؤيا ،شيء يفجر دهشتنا إلى ابعد مدى... وهو يضيء في ما يشبه المرثية درب سامي أبو غوش الرفيق الذي لا يحسن القول ولكن يحسن الفعل, حتى يذهب في الشعرية العالية إلى مداها الأجمل:
 
الرفيق الذي يكتئب
 
خلسة عن عيون الرفاق
 
خلسة عن مسراتهم
 
...
 
الرفيق الأشد نحولا
 
وأكثر صمتا
 
وابعد من أن ينادى بصوت
 
... لم بعض الطريق
 
وبعض التعب
 
لم نصف التحية
 
نصف النهار
 
وخلى لنا ما تبقى
 
ولكنه دون أن ينتبه
 
شدَّ دالية من مكان قصي
 
و فاجأنا بالمعاني
 
...
 
مد لي كفا واختفى
 
تاركا في يدي
 
ساحة (الفاكهاني)
 
 مرثية... لغيابهم
 
زاهد في الكلام، وفي ما يشبه المرثية، غير أنها مرثية عالية، يشيع غيابهم ألممض، يقول : وإن غبتم فقد ظل منكم القليل، قماش يشبه قمصانكم، قمصانكم تشبه راية لا تشد، ولكنها بشارة انتصار:
 
وماذا يظل؟
 
القليل... القليل
 
وقمصانهم
 
قماش على شجر ينتشر
 
وقمصانهم
 
راية لا تشد
 
...
 
ولكنها تنتصر...
 
كلما أوغلت في قصائد الشاعر غسان زقطان، تدرك انه شاعر يكاد يكون نسيج وحده، لا اثر للكبير الشاعر (خليل زقطان) ولا اثر بين للكبير الشاعر (محمود درويش) لم يجره ضجيج بعض شعراء المقاومة إلى مربع الصخب.
 
مهما بحثت فلن تجد في فسيفساء شاعرية غسان زقطان إلا جيناته الشعرية الخاصة، وهو يعلي تجربته الشعرية بعمق نهر عام وراء عام، ومجموعة شعرية تلو مجموعة، ولاحظوا أني أقارب مجموعته الشعرية الرابعة، فكيف بإبداعه الجميل.. الجميل.. في مجموعاته اللاحقة.
 
هو علامة شعرية وشاعر أنساني مقاوم من طراز جدير بالدرس والمقاربة.
 
 ملاحظة غير مهمة
 
بإطلالة سريعة جدا على مجموعة (بطولة الأشياء) للشاعر غسان زقطان الصادرة عام 1988م، مما كتب في دمشق بعد مغادرة بيروت، وعلى ما في تلك القصائد من إبداع رفيع، غير أني افتقدت ذلك الحس الإنساني المهيب العميق الدفيء، الذي كانت تبوح به قصائد مجموعته (رايات) فهل للمكان سطوته..؟