عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    25-Mar-2023

الأدب ومعاداة الأدب

 القدس العربي-سعيد خطيبي

قرر أفلاطون أن يطرد الشعراء من مدينته الفاضلة. لم يكن يرى في الشعر أكثر من نصوص مفعمة بالحماسة وطبائع الفرسان، تفتقد إلى معاني التأمل والتفلسف. هكذا كانت قناعته في القرن الرابع قبل الميلاد، مع أن مؤرخين يفسرون عداءه للشعر والأدب إجمالاً إلى قضايا شخصية لا موضوعية، نظراً إلى عدم استلطافه لهوميروس، الذي طالما انتقد شعره، مُقللاً من قيمته. بالتالي حول أفلاطون مسألة شخصية إلى قضية عامة، ورسم أسس المدينة الفاضلة بأن يحكمها كبار السن، نظير ما يتمتعون به من حكمة وصبر، عكس الشباب الذين شبههم بالشعراء في طيشهم وسوء فهمهم في ما يدور من حولهم.
إن مشكلة أفلاطون مع «الشاعر» في المجمل، تتأتى من كون هذا الأخير يُغلّب العاطفة على الحقيقة التاريخية، بشكل أثار حساسية أفلاطون، فالشاعر يجعل من الأحاسيس بيان كتابة بدل توثيق اللحظة، أو مُساءلة الراهن، هكذا يكون أفلاطون قد أسس ـ بما كتبه عن المدينة الفاضلة ـ نواة الصراع ضد الأدب، أو ما يُطلق عليه: معاداة الأدب. البداية كانت من هذا الصدام التاريخي بين فيلسوف وشاعر، حيث رأى الأول في الثاني خصماً ونقيضاً له، فاستبعده. انتهى زمن أثينا القديمة، وعرف الأدب تطورات، في القرون العشرين الماضية، صار الأديب والفيلسوف على دكة واحدة، متقاربان من بعضهما بعضا، وتحملا وزر الأزمنة الجديدة، من رقابة واهتزازات، صار الاثنان محل منع وتشويه وحرق للكتب. مثلما تطور الأدب تطورت، في المقابل، مُعاداة الأدب. فما الذي يجعل سلطاً منغلقة على نفسها، أو جماعات أحادية العين، تمنع كتاباً أو تشيطن كاتباً؟
 
منابع الكره
 
سبق أن قرأنا عن مُعاداة الموسيقى، أو مُعاداة الرقص، أو مُعاداة الرسم، أو مُعاداة التصوير، فأعداء الفن كثر، بل إنهم في تزايد في العقود الأخيرة، لكن قليلاً ما نقرأ عن مُعاداة الأدب. في هذا السياق يقترح الناقد وليم ماركس وجهة نظره عن أشكال معاداة الأدب. بدءاً من التطرف الديني، الذي يرى في النص الأدبي نقيضاً للتنشئة العقائدية في حفظ النص المقدس. ينظر إلى الأدب بوصفه منافساً للمقدس، وأنه ينزع عن المقدس صفته الأساسية، فمن ينحاز إلى الدين لا يتعامل مع النص في منظوره الجمالي، ولا باعتباره تعبيراً لغوياً أو نصاً متخيلاً، بل يفترض أن ما جاء في شعر أو سرد هو الحقيقة، وهي حقيقة ـ في رأيه ـ مناقضة لما ترسخ في فهم المدونة الدينية، وأنها زائفة، بالتالي يميل إلى محاولة محو الأدب، واستبعاده عن أعين الناس. إن ما يحرك غريزة التطرف صوب حرق الأدب هو خيار سياسي، من أجل أن يُحافظ رجل الدين على موقعه، فلا ينافسه فيه كاتب أو شاعر. لكن في بعض الأحيان لا يُظهر التطرف الديني عداءً مباشراً للأدب، بل يحاول أن يتحلى بقدر من الحياد، فنراه بدل نت أن يعلن صراحة كره الأدب، يميل إلى السخرية منه، إلى التقليل من شأن كاتب أو كتاب، أو تضليل تلقي النص الأدبي. إنها سخرية تضمر كرهاً غير معلن. نوع آخر من كره الأدب يتأتى من صدمات نفسية تعرّض لها أشخاص بعينهم. يُسقطون ماضيهم وما تعرضوا له من اضطرابات على تأويلهم للأدب، فنرى أنهم يبغضون الكتاب والكاتب، لأنهما يذكرانهم بوقائع مؤلمة عاشوها. قد يكون شخص واجه أزمة نفسية ضمن العائلة، أو ضمن حيز اجتماعي ضيق، فيجد نفسه منساقاً صوب رفض الأدب، لأنه يذكره بهزة داخلية، لا يود العودة إليها. بالإضافة إلى ما سبق هناك نوع آخر من معاداة الأدب، والغريب أن يتأتى من كتاب أنفسهم.
يحصل مرات أن الكاتب الذي تتعثر مسيرته في البداية أو وسط الطريق، يصير خصماً إلى نظرائه في الأدب، فيحط من قيمة الأدب ويحاول الإساءة إليه، وتحميل الناس على تبني رأيه، كي يدفن عيبه، ويبرر فشله الشخصي. ضمن هذه الأسباب تتصاعد معاداة الأدب، وهو ما يبرر ما عرفناه في عقود ماضية من حرق للكتب ومن شيطنة للكتاب.
 
خطر الكتاب
 
مرّت أزمنة كان فيها الكتاب يعد غرضاً خطيراً، لا يقل شأناً عن نترات الأمونيوم، التي بوسعها التي تصير سماداً فتنفع التراب، أو متفجرات فتسكن حاملها تحت التراب. عقود من معاداة الأدب كرست الرقابة، التي كانت ممارسة شائعة في الماضي، لكنها اليوم بدأت في الانحسار. طرأت عوامل جديدة، بفضل التكنولوجيا، بحيث صار الكتاب حقاً مشاعاً، يصعب منعه من التداول. لكن مساوئ الرقابة أنها خلقت الرقابة الذاتية في عقول الكتاب، وبعضهم لا يزالون كذلك إلى اليوم، يتوارثون تلك الرقابة في أذهانهم مثل من يتوارثون الجينات، فالخوف يتناقل بين أجيال من المبدعين، وليس سهلاً التخلص منه، بل هناك من يرضع الخوف من ثديي أمه. إنها ذاكرة الخوف التي تنتقل من كاتب إلى آخر. وفي خضم التفكير في معاداة الأدب، نكاد ننسى أن كتباً مهمة، باتت من الكلاسيكيات في الزمن الحاضر، وهي مراجع أساسية في حياتنا، مُنعت عقب صدوره، على غرار «أليس في بلاد الغرائب» ذلك الكتاب الذي قابلته عاصفة من الجحود حال صدوره، وحجة خصومه أنهم لم يتقبلوا أن تصير حيوانات في مرتبة الإنسان، تتكلم وترد وتشارك في تغيير الحدث. كذلك حصل الأمر عينه مع ديوان «أزهار الشر» لبودلير، الذي حوكم من منظور أخلاقي، كما سادت المحاكمات الأخلاقية على كتاب «هاري بوتر» من منطلق أنه يروج للسحر. وستطول القائمة إذا أردنا الحديث عما أورثته سنين معاداة الأدب، من منع ورقابة، لكن الملاحظ أن هذه المعاداة لا تزال حاضرة، في الإساءة والتقليل من شأن كتاب وكذلك نقاد، من النيل من مبادرات أدبية أو في تأويل النص تأويلات ما وراء أدبية. لم نخرج من معاداة الأدب، لكن ذلك لا يمنع الأدب من مواصلة سيره، شعرا أو سردا، نحو فتح أفاق جديدة.
 
روائي جزائري