الدستور
في زمن لم يعد فيه الفرق واضحا بين الواقع والحلم، تنبت أجيال جديدة وتترعرع في تربة رقمية، تسقى لا من حنان الأم، ولا من دفء الاسرة والمجتمع، بل من خوارزميات صامتة، تحدّد لهم ماذا يحبون، وبمن يعجبون، وأين يجب أن تكون قلوبهم وأرواحهم.
جيل زد (المولود بين 1997 و2012)، وجيل ألفا (المولود بعد 2013)، أبناء العصور الذكية، يعيشون طفولتهم ومراهقتهم في عالم لا يتسع إلا للشاشات، حيث تغدو الضغطة والتمرير لغة تواصل بديلة عن اللمس والكلام والدموع والضحكات والغمزات. فكيف نلومهم إذا أصبحوا غرباء حتى عن أنفسهم؟
لم تعد الهوية رحلة في تفاصيل المجتمع والثقافة المحلية، بل صارت وجبة سريعة تعدها منصات التواصل خلال دقائق معدودة. يكبر الطفل اليوم محاطا بشلال من الصور المثالية، والأحلام المُصنّعة، فلا يعرف كيف يتحدث عن مشاعره أو كيف يسلسل افكاره، لكنه يتقن التعبير عن نفسه بملصق تعبيري تافه.
العالم الذي وعد بتحرير الإنسان بفضل التكنولوجيا، ينزلق رويدا إلى قيد جديد. ليس قيدا محسوسا بل قيد ناعم شفاف، يغري قبل أن يأسر. فهل ما نقرأه ونشاهده ونرغبه اليوم هو اختيارنا الحر؟ أم أن العقول البرمجية سبقتنا إلى صناديق رغباتنا وأمانينا؟
جيل زد الذي يحسن التحليق في فضاءات الإنترنت، كثيرا ما يعجز عن بناء صداقات حقيقية متينة دائمة. وجيل ألفا الذي يحبو بين تطبيقات الذكاء الاصطناعي، يبدو أقل قدرة على الحكي والذكاء العاطفي، وأقل صبرا على الاستماع، وأكثر هشاشة أمام صدمات العالم الواقعي.
المدارس، الأسرة، السياسات العامة، جميعها تقف اليوم أمام سؤال وجودي واخذ: كيف نعيد للإنسان توازنه وسط هذا الطوفان الرقمي العارم؟ كيف نصنع أجيالا تعرف أن للغة رائحة وملمس ونكهة، وللصمت حكمة ومعنى وآفاقاً، وللعناق وزنا لا يقدر بقيمة، كيف لنا هذا في عالم باتت فيه العلاقات إشعارات منبثقة؟
الخطر الحقيقي لا يكمن في أن تضيع هويتنا فحسب، بل أن نستبدلها بنسخة مصنعة مهندسة ومفبركة حسب معايير الربح والاستهلاك اللحظي. فمن سينتصر؟ الإنسان المتجذر في كيانه؟ أم المعلق بخيوط خفية تحركها خوارزميات غير مرئية تصنع الفوارق؟ الأسئلة مفتوحة والإجابات أكثر غموضا مما نتصور.