من الثقافة إلى القوة الناعمة.. ملامح تجربة مغربية
الغد-عزيزة علي
يندرج كتاب "الدبلوماسية الثقافية للمملكة المغربية: تجربة متحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر"، ضمن الجهود الرامية إلى مقاربة العلاقة بين المتحف والدبلوماسية الثقافية، من خلال دراسة حالة متحف محمد السادس، الذي يمثل تجربة رائدة في الحقل المتحفي بالمغرب.
وقد سعيتُ مؤلفة الكتاب الباحثة والإعلامية المغربية هدى البكاي لهبيل، من خلال هذه الدراسة إلى تحليل كيفية مساهمة المتحف في تجسيد الدبلوماسية الثقافية، وذلك عبر ما يقدمه من معارض وأنشطة تشجع على التلاقح الحضاري، وتدعم صورة المغرب كجسر للتواصل بين الثقافات.
تقول المؤلفة لهبيل، بأنها وزعت دراستها على فصلين رئيسيين: تناول الأول الإطار النظري والمفاهيمي المرتبط بالدبلوماسية الثقافية والمتاحف، مع التركيز على التجربة المغربية. أما الفصل الثاني، فخصص لتحليل تجربة متحف محمد السادس، من خلال رصد أبرز المعارض التي احتضنها أو شارك فيها، وما عكسته من انفتاح ثقافي وتبادل حضاري مثمر.
وتعتبر تشكل الثقافة والفنون اليوم ركيزتين أساسيتين في بناء المجتمعات الحديثة، وأداتين فعالتين في ترسيخ قيم الحوار والتفاهم بين الشعوب. ومع تصاعد دور "الدبلوماسية الثقافية" كإحدى تجليات القوة الناعمة، بات من الضروري إعادة النظر في الأدوار التي تضطلع بها المؤسسات الثقافية، وفي طليعتها المتاحف، باعتبارها فضاءات للذاكرة، ومنصات للتواصل العابر للحدود.
وترى المؤلفة أن المغرب يبرز كأحد البلدان التي أولت الثقافة والفن أهمية متزايدة خلال السنوات الأخيرة، تحت قيادة الملك محمد السادس، حيث شهدت البلاد حركية ثقافية نشطة، تجلت في إنجازات ملموسة، منها إنشاء متاحف حديثة تتماشى مع رؤية المملكة لتعزيز حضورها الثقافي على الساحة الدولية.
في مقدمة كتابها الصادر عن "الآن ناشرون وموزعون" في الأردن، تؤكد المؤلفة أن الثقافة والفنون تمثلان ركيزتين أساسيتين للتنمية البشرية والدبلوماسية الثقافية، ما يجعل الاهتمام بمكوناتهما وعناصرهما أمرًا ملحًا وضروريًا. وانطلاقًا من الدور المحوري الذي تضطلع به الثقافة في التقريب بين الشعوب ونشر قيم الحوار والانفتاح على الآخر، كرّس المغرب هذا الجانب بقوة في السنوات الأخيرة، تحت قيادة الملك محمد السادس، مما جعل من الدبلوماسية الثقافية أداة فعالة تساهم في تعزيز الحضور المغربي على المستويين القاري والدولي.
وتضيف أن المغرب أضحى في السنوات الأخيرة فاعلًا بارزًا على المستويين القاري والدولي في مجالات عدة، منها الإسهام في تحقيق السلم العالمي. ويُعد المجال الثقافي أحد أبرز المجالات التي أسهمت في تعزيز صورة المملكة كدولة تتمتع بأصالة وغنى تراثها المادي واللامادي.
وتشير المؤلفة إلى أن المتاحف تمثل أحد الروافد الجوهرية لهذا الإشعاع الثقافي والدبلوماسي، فهي، بالإضافة إلى كونها ذاكرة تحفظ تراث الشعوب وثقافتها، تعكس كذلك صورتها الحضارية والفنية أمام العالم. ومن هذا المنطلق، اختارت موضوع المتاحف والدبلوماسية الثقافية بهدف إبراز أهمية هذه المؤسسات في ترسيخ الحوار الحضاري وتعزيز التقارب بين الشعوب من خلال ما تقدمه من معارض متنوعة.
وتوضح لهبيل أنها سلطت الضوء في هذا الكتاب على هذا الطرح من خلال دراسة بحثية اعتمدت فيها المنهج التحليلي، وتضمّنت فصلين رئيسيين: الفصل الأول يتناول مباحث نظرية تهدف إلى تحديد المفاهيم الأساسية المتعلقة بالدبلوماسية الثقافية والمتاحف، واستعراض تقاطعاتهما، من منطلق أن كليهما يلتقي في عنصري الثقافة والفن، وهما رافدان أساسيان لكليهما. كما تطرقت في هذا الفصل إلى خصوصيات الدبلوماسية الثقافية المغربية، وما حققته من إنجازات في ظل الرعاية الملكية لتعزيز الوجه الثقافي للمملكة، لا سيما في القطاع المتحفي.
الفصل الثاني خصص لتجربة متحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر، الذي تم اختياره لما يعكسه من رؤية منسجمة مع السياسة الثقافية المغربية، ولكونه مؤسسة فريدة تُعد الأولى من نوعها بعد الاستقلال، مخصصة للفن الحديث والمعاصر. ويقع هذا المتحف في العاصمة الرباط، التي نالت لقب عاصمة الثقافة في العالم الإسلامي لعام 2022، وأيضا عاصمة الثقافة الإفريقية لعامي 2022 و2023، ما يعكس مكانة المغرب الحضارية والثقافية.
وتبين المؤلفة أن اهتمامها بهذه التجربة نابع من عملها الإعلامي، حيث سبق أن غطت عددا من المعارض التي نظمها المتحف لصالح قسم الأخبار في الإذاعة الوطنية. وقد دفعتها هذه التغطيات إلى التفكير في العلاقة بين المعارض والمتاحف من جهة، والدبلوماسية الثقافية من جهة أخرى، وهي العلاقة التي قلما تم التطرق إليها في الدراسات السابقة، رغم وفرة المصادر التي تناولت موضوع المتاحف بشكل عام.
ويركّز هذا الفصل على المعارض التي نظمها المتحف خلال عامي 2021 و2022، والتي تميزت بتنوعها، ومنها معرض "أوجين دولاكروا: ذكريات رحلة إلى المغرب"، ومعارض فوتوغرافية لهنري كارتييه بريسون، وجيرار رونسين، ومالك سيديبي الذي أضفى بُعدا إفريقيا على التوجه الفني للمتحف. كما شارك المتحف في معارض دولية مثل "القصة الأخرى: الحداثة المغربية" في متحف كوبرا بهولندا، و"حول أعمدة هرقل: العلاقات العريقة بين المغرب وإسبانيا" في مدريد. ويخلص هذا الفصل إلى أهمية هذه المعارض في تعزيز الدبلوماسية الثقافية، وتوطيد العلاقات بين الدول، ودعم التبادل الفني والفكري، والمساهمة في التلاقح الثقافي بين الشعوب.
وفي خاتمة الكتاب، تؤكد المؤلفة أن الفن المتحفي هو لغة عالمية تنتمي إلى جماليات خاصة تحددها الثقافات المختلفة، وبما أن هذه اللغة بصرية، فهي قادرة على تجاوز الحدود الجغرافية والثقافية، لتقيم حوارًا بصريًا مع المتلقي، بغض النظر عن لغته أو خلفيته الثقافية. ومن هنا، يصبح المتحف فضاءً للحوار الحضاري، يتجاوز حدود المتعة الجمالية إلى فضاء للتثاقف وتلاقي الرؤى الفنية المختلفة، مما يعزز الدبلوماسية الثقافية ويسهم في التقارب الإنساني.