الراي
ذكرني «الفيسبوك» بمجموعة صور نشرتها على صفحتي، التقطتها خلال جولة قمت بها داخل العاصمة، وهي تخضع لحظر التجول في ذروة جائحة كورونا، ولم يخطر ببال أحد أن تخضع كافة أنحاء المملكة لحظر تجول إلزامي، فتسترخي عمان وتنعم بهدوء نادر «ترمي الإبرة تسمع رنتها"! وهي مدينة لا تنام في الظروف الطبيعية!
كتبت يوما مقالا بعنوان «عمان قبل السابعة»، خرجت بحدود الساعة السادسة والنصف صباحا، قبل أن ينتشر الناس إلى أعمالهم والطلبة الى مدارسهم وتزدحم شوارع العاصمة بالمركبات وتغرق بأزمات المرور، فشعرت بمتعة قيادة السيارة، لكن في زمن كورونا كانت حالة استثنائية!
لم أشهد في حياتي يوماً واحداً فرض فيه حظر التجول في الأردن، ولا في أي دولة أقمت فيها أو زرتها، بكل ما يعنيه حظر التجول من تقييد للحرية الشخصية، وبلغ الأمر ذروته أن الحكومة دخلت مجازفة غير مدروسة بقرار إدارة عملية توزيع الخبز، فكان يوم بدء التوزيع 24/3/2020 مهزلة، يمكن وصفه بـ«الثلاثاء الأسود»!
خطرت في ذهني وأنا أتجول ملاحظة تدخل في عمق طبيعة النفس البشرية، وهي مذاق الإحساس بالسلطة وهو ليس محصوراً بتولي المناصب العليا وإدارة شؤون البشر، بل أن كل ما يميز المرء عن الآخرين، يوفر له سلطة ولو من الناحية النفسية، وكان يراودني هذا الإحساس كلما توقفت عند نقطة أمن وطلبت مني التصريح كـ«صحفي»، للتأكد من مشروعية التنقل وتعاملني بلطف واحترام، وبالإمكان تخيل ما يشعر به كبار المسؤولين والساسة والنواب، الذين يتمتعون بامتيازات ورواتب ومكافآت عالية وسيارات مميزة في لوحاتها وهم محاطون بالمصفقين والمنافقين!
ومع متعة هدوء الشوارع تختلط لدى المرء مشاعر متضاربة، بين الاسترخاء والدهشة مع الألم وفقدان نبض الحياة، والإحساس بأحوال آلاف الأسر التي تعيش من مصالحها الصغيرة، كالمتاجر والمطاعم و«الصنايعية» بمختلف فئاتهم، وحتى أصحاب أكشاك بيع القهوة والشاي على الأرصفة، فالوضع الاقتصادي كان قاسيا جدا، وغالبية الناس يشكون ويتذمرون ويتألمون، ونسبة كبيرة يرزحون تحت عبء الديون، قبل كورونا وحظر التجول.. فجاء هذا الفيروس اللعين ليزيد الطين بلة..
في وسط البلد قلب عمان النابض كانت الحالة محزنة والشوارع فارغة، ربما أهم معلمين تجاريين: «مطعم هاشم» الذي يعمل على مدار 24 ساعة، كان مغلقا ربما لأول مرة منذ عشرات السنين، ثم دلفت في دخلة محل «كنافة حبيبة»، مروراً بـ«كشك أبو علي».. غاب «أبو علي»، ولا أحد ممن يتصفحون أو يشترون الكتب في زمن كورونا.. الغالبية العظمى يتابعون ويقرأون ويعلقون على الفيسبوك! وغابت الطوابير الطويلة التي كانت دائما تصطف أمام حبيبة لتناول الكنافة، المحل مغلق والموقع خال من الروح..
لاحظت وجود ثلاثة «عمال وطن» سلمت عليهم، وسألتهم عن مشاعرهم في ظل هدوء العاصمة، فقالوا إنهم غير مرتاحين.. البلد ليس لها طعم بدون حياة!