عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    23-Jun-2022

أين “السميعة”..؟!* علاء الدين أبو زينة

 الغد

4 آلاف مشاهد يروي أنه عندما زار “النهر الخالد”، الموسيقار العظيم محمّد عبد الوهاب مدينة “حلب” السورية أول مرة، فوجئ عندما صعد إلى خشبة المسرح بالجمهور القليل الذي لا يتجاوز عدده أصابع اليد الواحدة. وأبدى استغرابَهُ مُتسائِلاً عما إذا كان هذا هوَ جُمهورُ “حلب” المعروف بحبه للفن. وجاءه الجواب في اليوم التالي، عندما غصت جنبات المسرح بالحضور.
كان الذين استمعوا إليه أولاً هم “السمّيعة”، الذين لهم سلطة اختبار الفنان الضيف بالاستماع إليه قبل أن يجيزوا له الغناء للجمهور. وكانت لهؤلاء “السميعة” مؤهلات: الأذن الموسيقية، وفهم المقامات، وأقسام الغناء، والإحساس العالي بالأنغام. وكانت لحلب السورية سمعة الرصانة الفنية، بل إن لها مساهماتها المسجلة في فنون الغناء: القدود الحلبية والمقامات والموشحات.
هل كان ما فعله الحلبيّون مع عبدالوهاب رجعية فنية ترفض التجارب الجديدة؟ هل كان ينبغي أن يسمحوا للضيف –المعروف مسبقاً- بأن يجرب مع الجمهور مباشرة؟ كان التقليد الحموي يرمي، غالباً، إلى صيانة الذائقة الفنية المشذبة التي شحذها تراث المدينة. وربما لم يريدوا أن يدفع الناس ثمن سلعة لا تستحق. لذلك ابتكروا طريقة “لفلترة” ما يُرضي والاحتفاظ للفن بهيبته.
هل ينبغي لأحد أن يحرس ذائقة الجمهور؟ أتصور أنه، نعم. لا أحد في النهاية يحب أن يشرف على مجتمع عليل الحُكم! وثمة في النهاية طرق في إدارة المجتمعات تنجب “رعاعاً” أو “غوغاء”. وكانت النهضة، تاريخياً، حزمة واحدة قوامها ارتقاء الفكر والفن والذائقة، والتمدن والعلم والأخلاق. عندما كانت مصر –مثلاً- مركزاً مهماً للنهضة العربية في القرن الماضي، كانت مركزاً للتجديد الفكري والأدبي والفني والتقدم العلمي والمادي معاً – ما يُسمى، عن حق، “الزمن الجميل”.
في الفن كتعبير أساسي عن شخصية المجتمعات، تُفاخر الأمم بنتاجها الموسيقي وفنانيها العِظام. ثمة دول الأوبرات والسيمفونيات، والكلاسيكيات. وعندما تحضر عرضاً في البولشوي، مثلاً، فإنك تأخذ من العرض أكثر من ثمن التذكرة. وعندما تحضر حفلة لكوكب الشرق، أم كلثوم، فإنك تختبر حالة تجلٍ صوفي وتفاعلات عاطفية وجمالية فريدة، حين تجتمع الموسيقا الهائلة والشِّعر الجميل والأداء المعجز. ولكن، ما الذي يعرضُه “الفنانون” الطارئون الكثر الآن؟
ذات مرة، حضر إلى الأردن فنان العرب، محمد عبده، لتقديم حفلة سواريه واحدة في قاعة فندق. كان ثمن التذكرة 100 دينار. وهو مبلغ كبير. لكن بالوسع التفكير في أن مساحة المكان التي تفرض قلة عدد الجمهور، وكلفة الفرقة الموسيقية الكبيرة من أبرع العازفين، وتكاليف السفر والإقامة واللوجستيات، يمكن أن تبرر ثمن التذكرة.
أما إقامة حفل “فني” في مكان واسع، يحضره أربعة آلاف مثلاً، لعرض شيء لا اسم له، قوامه شخص و”موسيقا” إلكترونية – ليست موسيقا في الحقيقة – وجيش صغير من الحراس الشخصيين، بتذاكر بالمئات، فموجب للتساؤلات. كنا نتساءل عن “داعش”: من أين وجد هذا التنظيم كل هؤلاء الذين جندهم واقتنعوا بطريقته وفكره؟ وبالمثل: كيف يجد “الفنانون” الجدد كل هؤلاء الذين يدفعون لهم مئات الدنانير ويتفاعلون مع طريقتهم ومقترحاتهم “الفنية”؟ ثمة شيء ينتشر في العقل الاجتماعي تنجبه السياسات، مناقض بنيوياً للنهضة والتقدم السموّ، ومساير للانحطاط.
وثمة التساؤل عن أحقية الأجيال القديمة في الحكم على ذائقة الأجيال الجديدة. وفاءً لمبدأ الحرية، يحق لكل أحد الإعجاب بما يريد- وتعريف ما يعتبره فناً. وإذا كان ما يُعرض لا يعجبك، أيها “القديم” فلا تشاهده فقط – واحتفظ برأيك لنفسك. في نهاية المطاف، غالباً ما يُقابل أي جديد بالرفض في البداية.
تبدو هذه الحجة وكأنها تضعنا في ورطة أخلاقية. من ناحية، ينطوي التدخل على شيء من فكرة الوصاية الأبوية والاعتقاد بصوابية الذات. ومن ناحية أخرى، ثمة منطق في المسؤولية تجاه حفظ عمل عقود من العمل المضني للارتقاء بالفكر والفن وكُل ما كان يوصف– بأمان- بأنه نهضة. في النهاية، لا يمكن أن يكون انحدار الفن وتجريده من الجماليات والمعنى سوى مظهر لانحدار عام في كل شيء آخر.
يُفترض أن الذائقة تُصنع وتُدرّب وتُشذّب، وكذلك العقل. وثمة مبرر للشك في النوايا عندما تُرخّص النشاطات التي تروج العبث، بينما تُراقَب بشدة الأنشطة ذات المعنى. وثمة مسؤولية، تحتكم إلى معايير المنطق والحس السليم، عن نوع الفكر والفن– والعقل- التي يُراد لها أن تكون شخصية المجتمع وسلعته ودليل وجهته.