دروب المعيني إلى القدس الشريف.. تأملات في المكان والإنسان
الغد
* الدكتور أحمد موسى الخطيب
بعد رحلة طويلة شاقة ممتعة ومثمرة للدكتور عبدالحميد المعيني في عوالم أدبنا العربي القديم وأبهائه، أمضى فيها شطرًا كبيرًا من عمره وجهده وصبره أستاذًا بجامعتي اليرموك، والعلوم الإسلامية العالمية، كان فيهما باحثًا وفيًّا لتراثنا الشعري، بعد كل هذا أناخ راحلته راضيًا عما أنجز، ولكنّه ظلّ مشغولاً -شأن كبار الدارسين-بأسئلة ملحّة، وقضايا مهمة، غفل عنها الباحثون في شعرنا العربي القديم، فيقول: "وإذا نظرنا إلى المؤلفات والكتب والدراسات التي عنيت بالشعر العربي القديم، وأرّخت له، ونهضت بدراسات مستفيضة فيه، وعنه، وحوله، فإننا لا نجد اهتمامًا ورعاية وتصورًا من هذه الدراسات والبحوث لفلسطين/المكان والإنسان، والثقافة والحضارة في شعرنا القديم" (من الكتاب ص 5).
وثمة ملاحظة جوهرية أخرى، شفع بها تساؤله: لماذا لم تُعنَ الكتب المدونة، والمؤلفات التاريخية والجغرافيّة والإنسانية بالمشاهد والشواهد الأدبية عامة، ولا تحفل بالنصوص الشعرية الفلسطينية بخاصة، بالرغم من قيمتها وأهميتها، وضرورة وجودها في تلك المؤلفات والمدونات؟
للإجابة عن هذا السؤال، جعل د.المعيني القدس بوصلته، وغايته، ومحور جهوده في التنقيب والكشف والدراسة، لذا تعددت دروبه لتحقيق مأربه، فمضى إليها في كتابه الأول (القدس والقصيدة العمودية القديمة/جدل الاسم، وجمال الدلالة)، وجعل مهمته في هذا الكتاب التنقيب عن أسماء مدينة القدس في ديوان الشعر العربي القديم، وذلك من نهايات العصر الجاهلي، مروراً بالعصر الأموي، وبدايات قيام الدولة العباسية، أي ما يقرب من ثلاثة قرون، وقد أسعفه تخصصه واهتمامه الأول بالشعر العربي القديم في عبور هذا الدرب الصعب، والوصول إلى مبتغاه، فبلغت أسماء القدس سبعًا هي: القدس، وبيت المقدس، والمسجد الأقصى، والوادي المقدس، ومنبت الزيتون، وإيلياء، وقبل ذلك في الجاهلية أورسلم، وحصد خلال هذه الرحلة 60 قصيدة، بلغت أبياتها أكثر من ألفي بيت من الشعر، وأنشدها أكثر من 40 شاعرًا.
وبذلك قدم د. المعيني الديوان الأول للشعر المقدسي القديم، الذي يُعدُّ مرجعًا شعريًا، وإضافة نوعية، ووثيقة أدبية لها قيمتها الإبداعية.
ثم راق للباحث أن يمدّ البصر إلى ديوان الشعر العربي المعاصر، ليقف على تجليات القدس في واحدةٍ مهمةٍ من تجاربه، التي انخرطت في الهم المقدسي، ونذر صاحبها تجربته دفاعاً عنها، مقاومًا ما تتعرّض له من هجمة شرسة على شتّى الصّعُد، مصوّرًا صمود أهلها، وبطولات المرابطين فيها، مؤكدًا على حقهم في العودة والتحرير، ورفض الشتات والمنافي، متأمّلًا هذا الحب الأصيل لواحد من عشاق هذه المدينة الباسلة، الذي نذر تجربته الشعرية الطويلة في التعبير عن القدس، وجمالياتها، ومطالبها الملحّة، واستحقت بذلك أن يُفرد لها كتابا بعنوان (القدس ترسم صورتها في شعر سعد الدين شاهين /الدلالات والجماليات)، ولأجل عيون القدس كانت هذه الانعطافة من قديم الشعر العربي إلى حديثه، ومن ينابيع التراث العذبة وواحاته المتألقة في تلك اللوحات الفنية النادرة، إلى عصرية اللغة[AA1] والإيقاع والتشكيل والهموم عند الشاعر المقدسي الكبير سعدالدين شاهين، رعاه الله ممتعًا بموفور العافية والإنجاز المميز على درب الحداثة الشعرية.
ومضى د. المعيني، وهو العاشق المقدسي، أسيرًا لهوى القدس، متيّمًا إِثرها، يقلّب تجارب العشاق أنداده من أبناء لغة الضاد، من خارج فلسطين، ليجد أنّ بيت المقدس مكان عربي مطلوب للعشق. فهذا الشاعر الإماراتي الكبير حبيب الصايغ (رحمه الله) الأمين العام لاتحاد الكتاب العرب سابقاً، جدير بالتوقف عند تجربته الشعرية، وتقديم كتاب حولها بعنوان (فلسطين تنسج نهار السنين في شعر حبيب الصايغ /جمال الرؤية) تأمَّلَ فيه تجليات حبّ الصايغ لفلسطين، وعشقه لعاصمتها القدس، مقدماً سرديته العربية الصادقة لحقّها، ومحنتها، ونضال أبنائها، وسِيَر شهدائها، رافضاً لسردية المحتل، منحازاً لرؤية المقاومين والمرابطين المؤمنين بحق العودة والتحرير.
وقد جاء كتاب د. المعيني وفاءً وحبًا وتقديرًا لموهبة الصايغ ودوره، متناولاً فيه موضوعين، هما: الأول: فلسطين الشخصية الفلسطينية المبهرة المقاومة. وللثاني: فلسطين الأرض الوطن والوجود والمصير.
وبعد أن أنجز د. المعيني هذه الكتب الثلاثة، قابضًا فيها على ذلك الخيط الذي ينظمها معًا، للانتصار لفلسطين وعاصمتها القدس، نافيًا السردية العدوانية، التي يتبناها أعداء الحياة، والحق، والحرية، يعود إلى موضوعه الأول (فلسطين في الشعر العربي القديم) ليستكمل ما بدأه، ولكن على نحو أوسع وأشمل، في محاولة للإجابة عن سؤاله المهم: هل تُعدّ فلسطين وحاضرتها القدس بيئة شعرية في العصور الإسلامية الأولى، كما هي الحال في مكة والمدينة ودمشق وبغداد والقاهرة؟
وقد أعجبني نهجه في تناول موضوعه، فبدأ من حيث ينبغي أن ينتهي، كما فعل الجرجاني في دراسة الإعجاز البلاغي في القرآن الكريم، فقال: "القرآن مُعجز ومُلغز"، ثم مضى من قناعته يبسط حججه. وهكذا فعل المعيني فقال: فلسطين بلد الإبداع الشعري القديم، وبسط هذا الأمر في محورين: الأول تناول فلسطين الاسم، والتاريخ، والموقع، والزمان. وتناول الثاني فلسطين المكان، والإنسان، والشعر، والقراءة. وكان موفقاً إلى حدٍّ بعيد في تناول موضوع القراءة، فتناوله في ثلاثة محاور كبيرة: فلسطين الداخل، وفلسطين الأغوار، وفلسطين الساحل.
وقد أتاح له هذا الوقوف على ملامح المكان الحضارية، والثقافية، وتجلية ما اتصل بشعر هذه البيئة من أدوار سياسية باعتبار القدس العاصمة السياسية، والأدبية للدولة الأموية، كما أن هذه البيئة لم تفقد دورها بعد ذلك، نظراً لموقعها الفريد، فهي بوابة مصر وبلاد الشام، ولا بد لها من أن تتأثر بما يحدث هنا أو هناك، ولا بد لكل وافد إلى مصر من العبور من بوابتها، والاتصال بحكامها وقادتها.
وكانت النتائج التي انتهى إليها الباحث جديرة بالتقدير والإكبار، فحسبه أنه قدّم للباحثين بيئة شعرية لها خصوصيتها، وأهميتها، وشعراؤها، ولها ديوانها الجدير بالاهتمام والدراسة من الباحثين لبلورة ملامح جمالية لشعر هذه البيئة، وبهذا يكتمل شمل الديوان الفلسطيني العام للشعر من العصر الجاهلي حتى عصور الحضارة العربية الإسلامية، وصولاً إلى الحروب الصليبية.
والجميل في هذا الديوان أنه ليس حكرًا على مدينة بعينها، وإن كانت القدس في مقدمة تلك المدن لمكانتها الدينية والسياسية، فهناك الرملة، ويافا، وطبرية، وأريحا، وغزّة، وعكا، وبيسان، وعسقلان ...
وقد عرف هذا الديوان العديد من شعراء العصور الأولى، فمنهم الأصيل في المكان، ومنهم الوافد، ومنهم المقيم، ومنهم العابر إلى مصر، فقد ضم الديوان مائة شاعر، وما يربو على مائتي قصيدة، وأكثر من خمسة آلاف بيت من الشعر. ومن هؤلاء الشعراء: البحتري، وأبو تمام، والمتنبي، وأبو نواس، وبشار بن برد، والتهامي، وإبراهيم الغزّي، والخفاجي، وعدي بن الرقاع العاملي، والعبلي أبو عدي الأموي، وزياد بن حنظلة التميمي، وأبو علي بن نافع الرملي ... وغير ذلك كثير.
وهكذا قدم الباحث الكريم للمكتبة العربية كتابًا غاية في الأهمية، وبيئة شعرية منسية، لها خصوصيتها، ولها ملامحها وقيمها الجمالية. ولا نظن أحدًا من الباحثين قبل د. المعيني من أضاء تلك الفترة من حياة المتنبي في صحبة أمير طبرية بدر بن عمّار، الذي أمضى معه، وفي صحبته عشرة أعوام، وهي أطول مدة من عمره عاشها في صحبة أحد ممدوحيه، وكان نتاجها ثلاثين قصيدة، ولم يتصدّ أحد لدراستها.