الدستور
كنا نطل على العالم من نوافذ، من أبواب، من لقاءات في المقهى أو زوايا الحارات. اليوم، نطل من الشاشات. بل نحن شاشات تتحرك، نمد وجوهنا في كل الجهات، لا بحثا عن دفء حقيقي، بل عمن يضغط على زر «الإعجاب». لم نعد نكتفي بأن نكون في هذا الفضاء، بل نريد أن نُرى، نُصفّق لأنفسنا، ونوثّق كل لحظة كأنها إنجاز. صار حضورنا معلقا بين «سيلفي» و»فلتر» و»ريلز» كأننا نخشى أن تمر الحياة دون أن ترصد.
في عالمنا السائل، تحول الإنسان إلى مشروع تسويقي لنفسه. كل منا مدير علاقات عامة لذاته بل ووزير إعلام نفسه. كل صورة تلتقط بحساب، وكل فكرة تنشر بحساب، وكل تفاعل يمنح أو يحجب بحساب. الذات تحولت من كيان حي إلى واجهة برّاقة، خاضعة لمراجعات الجمهور، خاضعة لمرآة المجتمع الرقمي الذي لا يرحم.
النرجسية لم تعد اضطرابا فرديا، بل ظاهرة جماعية مفعلة بخوارزميات. الكل يتحدث عن نفسه. الكل ينتج محتواه الشخصي. الكل يسوق لسعادته، لحكمته، لجماله. من لم يكن نجما في الواقع، أصبح مؤثرا رقميا. نحن في زمن يمكن فيه لأي فرد أن يختلق بطولة وهمية ويحول ذاته إلى مادة استهلاك يومي.
لكن ما الذي يبقى من الإنسان إذا صدق واجهته أكثر مما صدق نفسه؟ ما الذي يتبقى حين تصبح العلاقة مجموعة رموز تعبيرية؟ متى كانت آخر مرة تحدثنا فيها دون جمهور، وسمعنا السؤال: كيف حالك؟ لا لنرد، بل لنصغي لأثره في داخلنا؟
لقد فاضت المنصات وجفت النفوس. كثر الكلام وقل الإصغاء. تضخمت الصور وتقلصت المشاعر. أصبحنا نحكي عن الحياة أكثر مما نعيشها، ونرصد أنفسنا أكثر مما نفهمها.
فهل نملك الشجاعة لنكسر تلك المرايا الرقمية؟ وهل ما زال فينا مكان لصوت لا ينتظر تصفيقا، ووجه لا يحتاج فلترا؟ هل نستطيع أن نعود يوما لما كنا عليه؟ لا كما نظهر، بل كما نشعر؟ ربما لا نحتاج إلى أكثر من لحظة صدق. بعيدا عن البث المباشر. قريبا من أنفسنا، أخيرا.