الغد- ترجمة: علاء الدين أبو زينة
جوشوا فرانك* - (كاونتربنش) 20/6/2025
مثل العديد من المشاريع الاستعمارية الأخرى، تأسست إسرائيل من خلال العنف، واعتمدت منذ ذلك الحين على استخدام القوة لاحتلال الأراضي العربية. ودفعها الاعتقاد بأن وجودها يعتمد على جيش متفوق في منطقة معادية إلى بدء برنامج للأسلحة النووية بعد فترة وجيزة من تأسيسها في العام 1948.
بحلول منتصف الخمسينيات، شرعت إسرائيل، على الرغم من أنها كانت ما تزال دولة فتية آنذاك، في بناء مفاعل نووي كبير سرًا بمساعدة من فرنسا. وتبين لاحقًا أن تعاون حليفين على إطلاق برنامج أسلحة نووية سري من دون علم إدارة الرئيس في ذلك الوقت، دوايت أيزنهاور، كان فشلاً استخباراتيًا أميركيًا ذريعًا -ومحرجًا للغاية.
لم يكن حتى حزيران (يونيو) 1960، السنة الأخيرة من فترة رئاسة أيزنهاور، حين سمع المسؤولون الأميركيون بالصدفة عما كان يُعرف مسبقًا باسم "مشروع ديمونا". اعترف دانيال كيمحي، قطب النفط الإسرائيلي الذي كان قد شرب من دون شك الكثير من كؤوس الكوكتيل في حفلة في وقت متأخر من الليل في السفارة الأميركية في تل أبيب، للدبلوماسيين الأميركيين الحاضرين بأن إسرائيل كانت تقوم بالفعل ببناء "مفاعل طاقة" كبير في صحراء النقب -وهو ما كان كشفًا مذهلاً.
وجاء في رسالة مشفرة من السفارة إلى وزارة الخارجية في آب (أغسطس) 1960: "وُصف هذا المشروع لـ[كيمحي] بأنه مفاعل طاقة مبرد بالغاز قادر على إنتاج ما يقرب من 60 ميغاواط من الطاقة الكهربائية. وقال [كيحمي] إنه يعتقد بأن العمل في البرنامج جار منذ حوالي عامين وأن تاريخ الانتهاء ما يزال يبعد نحو عامين".
ولكن لم يتم بناء مفاعل ديمونا للتعامل مع احتياجات البلاد المتزايدة من الطاقة. كما اكتشفت الولايات المتحدة لاحقًا، تم تصميم المفاعل (بمدخلات من الفرنسيين) لإنتاج البلوتونيوم لبرنامج أسلحة نووية إسرائيلي ناشئ. وفي كانون الأول (ديسمبر) 1960، عندما ازداد قلق المسؤولين الأميركيين بشأن تطلعات إسرائيل النووية، اعترف وزير الخارجية الفرنسي، موريس كوف دي مورفيل، لوزير الخارجية الأميركي كريستيان هيرتر، بأن فرنسا ساعدت إسرائيل في الواقع على إطلاق المشروع، وبأنها ستوفر أيضًا المواد الخام التي يحتاجها المفاعل، مثل اليورانيوم. وبالمقابل ستحصل فرنسا على حصة من أي بلوتونيوم ينتجه ديمونا.
في ذلك الوقت، أكد مسؤولون إسرائيليون وفرنسيون لأيزنهاور أن مفاعل ديمونا (المعروف الآن باسم "مركز النقب النووي") تم بناؤه للأغراض السلمية فقط. وفي محاولة لمزيد من صرف الانتباه، أشرف المسؤولون الإسرائيليون على نشر العديد من قصص التغطية لدعم هذا الادعاء، مؤكدين أن ديمونا سيصبح أي شيء -من مصنع نسيج إلى منشأة للأرصاد الجوية- سوى أن يكون مفاعلاً نوويًا قادرًا على إنتاج البلوتونيوم الصالح للاستخدام في صنع الأسلحة.
إنكار نووي
في كانون الأول (ديسمبر) 1960، بعد أن أبلغه عالم نووي بريطاني قلق من أن إسرائيل كانت تبني قنبلة نووية قذرة (أي شديدة الإشعاع)، كتب الصحفي تشابمان بينشر في صحيفة "ديلي إكسبريس" اللندنية: "تعتقد سلطات المخابرات البريطانية والأميركية أن الإسرائيليين في طريقهم إلى بناء أول قنبلة نووية تجريبية لهم".
وفي الرد، أصدر مسؤولون إسرائيليون رسالة مقتضبة من سفارتهم في لندن: "إسرائيل لا تصنع قنبلة ذرية وليست لديها النية لفعل ذلك".
ومع تزايد قلق الدول العربية من أن واشنطن تساعد مساعي إسرائيل النووية، سرّب رئيس "لجنة الطاقة الذرية"، جون ماكون، وثيقة سرية لـ"وكالة المخابرات المركزية" إلى الصحفي جون فيني من صحيفة "نيويورك تايمز"، تدعي أن لدى الولايات المتحدة أدلة على أن إسرائيل تقوم، بمساعدة فرنسا، ببناء مفاعل نووي، وهو دليل على أن واشنطن لم تكن راضية جدًا عن التطلعات النووية لذلك البلد.
أذهلت الأخبار الرئيس أيزنهاور. لم يُقتصر الأمر على أن إدارته تُركت في الظلام فحسب، بل كان مسؤولوه يخشون أن تؤدي إسرائيل مسلحة نوويًا في المستقبل إلى زيادة زعزعة استقرار منطقة مضطربة مسبقًا. وجاء في برقية لوزارة الخارجية أرسلت إلى سفارتها في باريس في كانون الثاني (يناير) 1961: "تؤكد التقارير الواردة من الدول العربية الخطورة التي ينظر بها الكثيرون إلى هذا الاحتمال [وجود أسلحة نووية في إسرائيل]".
عندما بدأ هذا المشروع النووي في إحداث موجات في الصحافة، سارع رئيس الوزراء الإسرائيلي في ذلك الحين، ديفيد بن غوريون، إلى التقليل من شأن هذا الكشف. وفي سبيل ذلك، ألقى خطابا أمام البرلمان الإسرائيلي، الكنيست، اعترف فيه بأن البلد يطور برنامجًا نوويًا. وقال: "التقارير الواردة في وسائل الإعلام كاذبة. إن ما يجري هو بناء مفاعل أبحاث نبنيه الآن في النقب تحت إشراف خبراء إسرائيليين، وهو مصمم للأغراض السلمية. وعندما يكتمل، سيكون مفتوحًا للعلماء من البلدان الأخرى".
كان، بالطبع، يكذب، وكان الأميركيون يعرفون ذلك. لم يكن هناك أي شيء سلمي في المشروع. والأسوأ هو أنه كان هناك إجماع متزايد بين حلفاء أميركا على أن أيزنهاور متورط في الخدعة، وأن إدارته قدمت المعرفة اللازمة لإطلاق البرنامج. ولم يحدث ذلك في الحقيقة، لكن المسؤولين الأميركيين أصبحوا حريصين على منع عمليات تفتيش الأمم المتحدة على ديمونا، خوفا مما قد يجده المفتشون هناك.
بحلول أيار (مايو) 1961، مع وجود جون كينيدي في البيت الأبيض، كانت الأمور تتغير. ووصلت الأمور بكينيدي إلى حدّ إرسال اثنين من علماء "لجنة الطاقة الذرية" لتفقد موقع ديمونا. وعلى الرغم من أنه خلص إلى تصديق الكثير من الضجيج الإسرائيلي، إلا أن الخبراء أشاروا إلى أن مفاعل المحطة النووية يمكن أن ينتج البلوتونيوم "المناسب لصنع أسلحة". وكتبت وكالة الاستخبارات المركزية، التي لم تطمئن إلى مزاعم إسرائيل، في تقدير الاستخبارات الوطنية الذي رُفعت عنه السرية الآن، أن بناء المفاعل يشير إلى أن "إسرائيل ربما قررت بناء برنامج أسلحة نووية. ونحن نعتقد، أنها قررت تطوير منشآتها النووية بطريقة تجعلها، كحد أدنى، في وضع يمكنها من تطوير أسلحة نووية على الفور إذا قررت القيام بذلك".
بطبيعة الحال، كان هذا ما حدث بالضبط. في كانون الثاني (يناير) 1967، أكدت شبكة (إن. بي. سي. نيوز" أن إسرائيل كانت على وشك امتلاك قدرة نووية. وبحلول ذلك الوقت، كان المسؤولون الأميركيون يعرفون أنها توشك على تطوير قنبلة نووية وأن منشأة ديمونا كانت تنتج البلوتونيوم الذي يصلح لبناء القنبلة. ثم بعد عقود، في تقريرها للعام 2013 نقلاً عن أرقام وكالة الاستخبارات الدفاعية الأميركية، كشفت "نشرة علماء الذرة" أن إسرائيل تمتلك ما لا يقل عن 80 سلاحًا ذريًا وأنها القوة النووية الوحيدة في الشرق الأوسط. ولن تحصل باكستان على أسلحة نووية حتى العام 1976، وهي عادة ما تُعتبر على أي حال جزءًا من جنوب آسيا.
لم تعترف إسرائيل علنًا حتى هذا اليوم بامتلاكها مثل هذه الأسلحة. ومع ذلك رفضت باستمرار السماح لمفتشي "الوكالة الدولية للطاقة الذرية" بزيارة الموقع السري في ديمونا. وتشير الأدلة إلى أن "مشروعًا كبيرًا" في ديمونا كان العمل عليه جاريًا في العام 2021، وأن إسرائيل كانت تعمل بنشاط في ذلك الوقت على توسيع منشآتها للإنتاج النووي. وأدى غياب عمليات التفتيش التابعة للأمم المتحدة أو غيرها من عمليات التفتيش في ديمونا إلى عدم إقرار إسرائيل علنًا برؤوسها الحربية النووية، وهو ما أفضى بدوره إلى عدم خضوعها للمساءلة. وهذا سبب إضافي يجعل قصفها غير القانوني لإيران بسبب برنامجها النووي المزعوم أكثر نفاقًا.
*جوشوا فرانك Joshua Frank: محرر مشارك لمجلة "كاونتربنش" ومضيف مشارك لراديو "كاونتربنش". أحدث كتاب له هو "الأيام الذرية: القصة غير المروية للمكان الأكثر سمية في أميركا" Atomic Days: The Untold Story of the Most Toxic Place in America، (منشورات كتب هايماركت).
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Israels Nuclear Deception: Flagrant Lies and Brazen Hypocrisy