عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    03-May-2019

شهر رمضان قبل «90 «عاما في سرديات عمان

 وليد سليمان

الراي - هاشم غرابية كاتب أردني، من مواليد 1951 في قرية حوارة - اربد, كتب وأبدع العديد من القصص والروايات والمسرحيات والنصوص والدراسات النقدية, ونال عدة جوائز أدبية، منها كانت جائزة ”محمدّ نزّال العرموطي“ للإبداع والدراسات العمّانية (حقل الرواية) التي أطلقها آل العرموطي برعاية بيت الشعر الأردني سنة 2008 عن روايته ”الشهبندر“ مناصفةً مع الروائي زياد قاسم.
ورواية ” الشهبندر“ للمبدع غرايبة تم نشرها في العام 2003 ,وهي تحكي عن عمان وحالها في الثلاثينيات اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا، وتُعطي لمحاتٍ عن التاريخ الذي مرّ على المكان.
رواية مكانية بامتياز تعتني بكثير من التفاصيل، وتهتم بإظهار التنوع في النسيج الاجتماعي في عمان.
ففي وسط البلد وجبل القلعة وجبل عمان - حيث تدور معظم الأحداث- يرد تفصيل تام للأسواق القديمة والشوارع، وتعطي فكرة واقعية وموضوعية عن حياة الناس في ذلك الوقت.
وفي الرواية استثمار كبير وموفق للهجة المحلية والأمثال والأهازيج الشعبية.
ومن الرواية نقرأ بدهشة عن شهر رمضان الذي أعتبره الروائي غرايبة كأنه شخص من لحم ودم ويتكلم أحياناً بالعديد من المفردات باللهجة العامية قائلاً:
” اللهم اجعلني خفيفا على الناس.. ازورهم هذا العام بين الصيف والشتاء، حيث النهار قصير، والطقس يتجه نحو الشتاء على مهل».
هذا الخريف لي، اتمطى بين شهري تشرين الاول وتشرين الثاني مستمتعا بالترحيب الذي ألقاه في عمَّان، أمرُّ على بيوتها بيتا بيتا. اتفقد التمر والزبيب واللوز والفستق، والتمر هندي، والعِرق سوس والقمردين.
في وسط البلد ادخل شارع الملك طلال، أمر على مخازن الثلج والعصائر، وواجهات محلات السمانة المكتظة بأصناف السكر، وانواع الارز، وصناديق الفواكه المجففة، وأنواع المكسرات والتوابل. أبارك الافران، وبسطات الهريسة وخوابي المخللات وخشابيات العصائر وبرّاكيات المفرقعات.. فأنا أحب الاطفال والحلوى والماء البارد والصلوات.
أحب نفسي في عمَّان، اذ ينتشر الناس في الاسواق نهارا، وقبيل آذان المغرب.. تتبادل البيوت صحون الطعام الساخنة، وأباريق الخشّاف الباردة بودٍ وكرم.
في ليل عمان
وفي الليل تصير أدراج اللويبدة وجبل عمان والاشرفية والقلعة والطهطور- جبل الحسين- والجوفة والنصر ملتقى الجارات بين اشجار الصنوبر، برعاية عبق شجيرات الياسمين وحضور كؤوس العصائر، وصواني القطايف، ويخرج الرجال الى المقاهي ويسرح الاطفال في الساحات فرحا بقدومي، وتصير عمان في مهرجان يجمع البخاريعَ المغربي، والشركسي عَ السوداني.
وانا والقمردين والخشاف والقطايف نكاد لا ننفصل عن بعضنا بعضا في عمان.. وتحتفل عمان بقدومي منذ 1316دورة.. فقد تعرفت على هذه البلدة الوادعة سنة اربعين للهجرة، وتعرفت هي على فضائلي بعد انتقال مركز الخلافة الاسلامية من المدينة المنورة الى دمشق الزاهية، حيث اعاد الامويون لعمان تسميتها القديمة، بعد ان ظلت تسمى فيلادلفيا لعشرة قرون ونيف.
وبنى الامويون المسجد العمري- المسجد الحسيني- قرب السيل، وزُينت واجهته بالفسيفساء واقيمت من حوله الاسواق، وبنوا قصرا جميلا من حجارة قلعتها المهيبة، يشرف على طريق القوافل التي تحط على السيل، وتتزود بالماء قبل الإقلاع نحو الصحراء.
انهارت الدولة الاموية تحت ضربات العباسيين الذين انطلقوا من الحميمة، القرية التي تقع جنوب عمان، مسيرة يوم وليلة ايا كانت وسيلتك للوصول اليها، فيسيطروا على العراق وخراسان، وبنوا بغداد عاصمة لهم.. لكن عمان ظلت محتفظة ببعض ألقها، وكانت مخزناً للحبوب، واستراحة للقوافل وموقعاً للتبادلات التجارية.
جاءوا وذهبوا !
وجاء الصليبيون وتناوبوا هم والأيوبيون الدخول والخروج من عمان.. الى ان انتصر صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين في حطين، وأُتبعت عمّان الى امارة الكرك التي حكمها العادل شقيق صلاح الدين، ثم آلت للملك الناصر داود.
وجاء المغول وسيطروا على البلاد، ولكن سرعان ما دحرهم المماليك في عين جالوت، واجرى المماليك تقسيمات ادارية جديدة فأتبعوا عمان للسلط.
ثم جاء العثمانيون الاتراك، وفي ظل حكمهم صارت عمان قرية بسيطة تنعم بالسبات، الى ان وفد اليها عدد من العائلات الشركسية المهاجرة من جور القيصر الروسي، فأستوطنوها منذ نهاية عام 1877م، وانعشوا الزراعة فيها.
ومع تقلص نفوذ الاتراك وقدوم الانجليز اثر الحرب العالمية الاولى، وبعد اقامة الامير عبداالله بن الحسين شريف مكة فيها، انتعشت البلدة من جديد، واستعادت دورها المتألق.
لكني لم أرَها بهية ونشطة كما هي اليوم!! فالاطفال يستقبلونني بالمفرقعات واهازيج الترحيب، والقنابل الملونة، والتصميم على مراقبتي كل مساء بانتظار افول نهاري، والنظر الى وجهي كل سحور من خلال صحون الحمص والفتوش والقمردين، وفناجين الشاي الساخنة.
في البداية يفرح الناس ابتهاجا بقدومي، وبعد ان يكتمل قمري بدرا، تتحول مشاعرهم الى فرح خفي برحيلي ممزوجة بانتظار متلهف للعيد.
احب عمان: لا غنىً فاحشا ولا فقراً مدقعا.
احب عمان، حيث لا فضل لعربي على عجمي، ولا منّة من مقيم على مهاجر، ولا تجبر من سيد على مسود.
فقد ظلت عمان تجبر من استجار بها، حتى انطبق عليها ما قاله السموأل في المروءة:
”لنا جبل يحتلّه من نجيره ..منيع يرد الطرف وهو كليل“.
احب الناس في عمان، لا لأنهم يستقبلونني بحفاوة وتكريم، واناشيد تسند الروح فقط، بل لانهم يظهرون اجمل ما في نفوسهم وخزائنهم بحضوري.
لو كان لي ان اكرم مدينة بعينها لكرّمت عمان هذا العام المتفق عليه على انه 1357 للهجرة الموافق لعام 1928 للميلاد.
ولو كان لي ان اكرم شخصا لورعه وكرمه وصدق عبادته واحتفائه بقدومي، لاخترت محمد علي الجمّال، الشهير بالشهبندر دون تردد.. اللهم اجعله من عتقائي.
المُسحّر في عمان
من السذاجة القول إن المسحر ليست مهنة.. انه عمل استثنائي اقوم به في شهر رمضان الكريم تطوعا الله تعالى وطمعا، بقرشين زيادة، استعين بهما على مصاريف العيد الذي نختم به الشهير الفضيل.
في رمضان الفائت كنت اصادف مصباح الدومري احيانا فنجوب الطرقات نتسامر، وانا اقرع طبلي بين الفينة والاخرى واصيح: يا نايم وحّد الدايم.
أحدثكم عن نفسي:
سبع صنايع والبخت ضايع..أبوي كان مزارعا، وعيت ع الدنيا حافيا، وألبس ثوب كرت مقلما ازرره على صدري بخيط مصيص، والبند نواة تمر!.
ولما كانت تمحل ارضنا في عين الباشا، كنت انزل مع ابي لحيفا نشتغل بالمينا.
(شلكوا بطول السيرة) ... سنة من سنين الخير روَّحت من الحْراث والدنيا كب من الرب.. ربطت الدابة بالخان، وغسلت رجلي من الطين تحت مزراب بيتنا ودخلت، لما دفيت لنها رجلي مسطوحة وتفور دماً، صبيت عليها كاز ورشيتها بشوية رماد من منقل الحطب وربطها بخرقة.
هز ابي قرمية الحطب التي في الكانون لتشع حرارتها جيدا، وقال: يا ولد كبرت.. وصار لازمك وطية!.
نفضت امي يديها من لقن العجين، وقالت: خابر عند خالك عبدالكريم بسطار انجليزي زيادة، روح شوفه.
خالي طلب بدل البسطار نعطيه دونم ارض، او نطوّب له الزيتونة اللي عَ باب الدار، طلعت من عنده وظليت بوجهي اعرج تا وصلت ماركا.. وسجّلت عسكري بقوة الحدود.
(وشلكو بطول السيرة)... قبل سنتين بعد 12 سنة خدمة، وبعد ما علّقت خيطين على كتفي، وصار لي بيت في حي المعانية في المحطة طّقوني من قوة الحدود.. وروّحت من العسكرية والقرود السود بين كتافي.. احترت بين بيتي في عمان وأرضي إللي ورثتها عن أبوي بعين الباشا!.
ضمّنت الارض لأخوي الصغير, والانجليز اعطوني قرشين نهاية الخدمة، فاشتريت بغل ونزلت اشتغل عليه بالسوق، طلع البغل مسروق!! وتعرفوا عليه إصحابه، والمنحوس منحوس لو علقوا برقبته فانوس.
(شلكو بطول السيرة)... أصلاً إحنا ما لنا حظ مع البغال!! لما كنت صغير (عقطني) بغل ابو جميل الدوّاج!! وترك علامة بصباحي ظلت معلّمة بين عيوني لليوم.
وهذيك الرفسة ما تنسى، االله ستر ما انعميت!! ابوي كسب البغل بدل الرفسة.. ركبه وطلع على الكرم يحرث عليه، لكن البغل كان معوِّد على حمل بضاعة الدواج ومش مطبع على الحراث،كسر عود الحراث وفل!! وظلينا طول الليل إندوِّرعليه، الصبح لقينا تاليه، اكلته الذياب.
(شلكوا بطول السيرة)... توسط لي الحاج سليم عند الحكومة، فصرفوا لي جحشا، وعينوني ساعي بريد..
نسيت اقول اني كنت تعلمت افك الخط على يد الشيخ شعيب وانا بقوة الحدود.
ولما صادفني الدومري في الليلة الثانية من الشهر الفضيل هذا العام قال لي: ”عايزك يا تركي بشغلة خفيفة لطيفة وتكسب منها قرشين، قلت: الناس غرب عمان برجم الملفوف وباللويبدة والطهطور تعودوا على
طبلتي، ما حدا غيري يصحيهم للسحور، اعرفهم واعرف بيوتهم بيتا بيتا، اذا عندك شغلة محرزة خليها لبعد رمضان». مقهى المنشية التحتا ثمة لعبة تأخذ مجدها في المقاهي خلال رمضان وفي الليالي الماطرة ايضا.. وتُلعب بإخفاء الخاتم تحت فنجان في صينية (طبق) بها عدد كبير من الفناجين، فيعتمد اللاعب على قراءة عيون الخصم ليعرف مكان الخاتم، وإذا كان عدد اللاعبين كبيراً فإنها تُلعب بإخفاء الخاتم في قبضة أحد اللاعبين .. وعلى (العرّيف) من الفريق الثاني اكتشاف الخاتم اعتمادا على فراسته وقوة ملاحظته وبناءً على انفعالات اللاعبين في اثناء محاورته لهم، وله الحق باستشارة فريقه دائما.