عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    10-Jan-2019

قيم رئيس القبيلة البيضاء

 الغد-هآرتس

 
دمتري شومسكي 9/1/2019
 
عندما فتحت للمرة الأولى كتاب عاموس عوز في مكان ما قبل ربع قرن، وجدت أول قصصه “بلاد بن آوى”، التي تفتتح مجموعة قصصه الأولى التي تحمل نفس الاسم – شعوري الفوري كان أنني لم أغادر في أي يوم شرق أوروبا. هذا ليس فقط لأن الزوجين اللذين أقاما الكيبوتس في القصة، واللذين أعدا لتجسيد، هكذا اعتقدت، “اليهودي الجديد”، سميا ساشكا وتانيا، بل لأنهما ظهرا لي كزوجين ثوريين من الروس المتجهمين، واللذين جاءا مباشرة من روايات مكسيم غوركي، وأوجدا لنفسيهما بصورة مدهشة حياة جديدة في بلاد غريبة وبلغة غريبة.
هكذا، حتى قبل كتاب “قصة عن الحب والظلام” – ليس هو كتاب الشتات الاكبر من بين انتاجاته – اطلعت بفضل عاموس عوز على سر مكشوف، لكن غير معترف به، في تاريخ الصهيونية والدولة اليهودية، الذي واصل انكشافه أمام ناظري المرة تلو الاخرى من خلال ابحاثي التاريخية. اساس هذا السر: رفض الشتات الصهيوني هو روح وطنية مع القليل جدا من التمسك بالواقع الوطني.
كلما دعت الصهيونية الحديثة إلى “رفض الستات” كشعار ايديولوجي، فهي بذلك احتوت وربطت من جديد اجزاء وشظايا من ماضي الشتات القريب، بالاساس من ماضي الشتات الاشكنازي- الأوروبي. هذا يشبه كل قومية حديثة مهما كانت، التي تتمرد بشكل علني ضد ماضيها القريب، لكنها دائما تجد صعوبة، لاسباب التواصل القومي، في الانفصال عنه. هكذا، رغم كونه أحد من شكلوا الثقافة والأدب الإسرائيليين الجديدين، فإن عوز كان أيضا أديبا يهوديا شرق أوروبي، المتحدث البارز لليهودية الاشكنازية القديمة داخل الواقع القومي الجديد.
ولكن يبدو أن هذا ليس ما قصده بني تسيفر عندما سمى عوز يوم موته “رئيس القبيلة البيضاء” (“هآرتس”، 30/12). تسيفر لم يقصد الثقافة والأدب، بل قصد الثقافة والتاريخ، والثقافة والسياسة. حسب رأيه كان عوز من الاركان الاساسية للهيمنة الاشكنازية المباية القديمة (نسبة لحزب مباي- تحرير الترجمة)، التي تضعضعت في العقود الاخيرة ازاء انقضاض “النخبة الجديدة” من قيادة اليمين “الاسود” الشعبي، وكما كان سيضيف بالتأكيد اليوم، غادي طاوب، ما بعد المباي، “الديمقراطي”.
هناك من سيقولون على الفور إنه سيصعب جدا الموافقة على جزء من الانتقادات التي وجهت لتسيفر في اعقاب مقاله “القبيلة البيضاء” عن عوز. رامي لفني، مثلا (“هآرتس”، 31/12)، قال إن عوز كان يمثل العبرنة، ايديولوجيا وطنية علمانية، فوق قبلية، رضعت من المبادئ المستنيرة العالمية وكانت ملزمة بالروح الإنسانية لمجتمع مثالي ودمج الشتات. لا شك أن الرغبة في عدم تكرار فشل دول أوروبا في نهاية القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين في تأسيس مواطنة متساوية، التي ترتكز على أسس الانسانية والتنور، كانت أمر اساسي في حلم الصهيونية.
ولكن بالممارسة، هذا الحلم تبين أنه مغرور جدا وغير منطقي بشكل واضح، حيث أن “العبرنة” المحايدة من ناحية الهوية والثقافة، التي يستند اليها لفني لم تكن موجودة، ولم تكن في أي يوم قادرة على الوجود – في الحياة الحقيقية لأناس ذوي ماض ثقافي ملموس.
لم يكن مفاجئا أن هذه كانت عبرنة مركزية اوروبية بصورة واضحة. سواء بصورة الماضي اليهودي ذي الصلة بنظرها، أو بخصوص رؤية المستقبل الثقافي في الدولة الشابة، من خلال نفي حثيث لتراث اليهود الشرقيين وتضاد ذاتي قطبي للشرق العربي. هكذا، بدلا من تطوير نماذج محتوية للواقع الاجتماعي والثقافي، وجدت العبرية الإسرائيلية نفسها تستنسخ بالنسبة للعرب والشرقيين نفس مقاربة اقصاء الآخر التي جربها اليهود على جلودهم في أوروبا، والشعوب غير الاوروبية في المستوطنات وراء البحار.
لقد أحسن الياهو اليسار صياغة ذلك، وهو شخصية عامة سفاردية بارزة في فترة الاستيطان الأول والدولة الفتية: “المصيبة الكبرى في دولتنا هي أن الذين في أيديهم السلطة والذين يبتون في كل شيء، يعتقدون مثلما اعتقد في أوروبا مفكرين كثيرين، بأن الثقافة التي في المرتبة الاولى والمتفوقة عليها جميعا، هي ثقافتهم الغربية، التي حاولت الشعوب الكولونيالية ادخالها إلى كل الشعوب التي دفنوها تحتهم.
“دمج الشتات” الذي يتحدثون عنه كثيرا هو دليل بارز على هذه المقاربة التي كانت قبل مائة سنة في أوروبا. الدمج المطلوب هو اعطاء كل المهاجرين من الشرق ومن الغرب “ثقافة” يهودية – اشكنازية، وتجاهل الثقافة السفاردية بشكل مطلق (اليسار، “يجب علينا منع العنصرية اليهودية”، 1967).
لا يوجد أي مبرر لاخفاء الحقيقة التاريخية وانكار حقيقة أن الدولة الإسرائيلية في العقود الاولى من تأسيسها كانت مبنية بصورة هرمية، حيث النخبة اليهودية الاشكنازية الاشتراكية، “القبيلة البيضاء”، حسب تعريف تسيفر النظري – النقدي، حددت الصورة الثقافية ووزعت موارد الدولة كما تشاء.
ولكن الأهم هو عدم اخفاء الحقيقة السياسية الحالية الآن، وهي أن “القبيلة البيضاء” كمفهوم هيمنة يعبر عن قمع الآخر في المجتمع الإسرائيلي، لم ينته من إسرائيل ولم يذهب إلى أي مكان آخر. بالعكس، هو ما زال يعيش بين ظهرانينا، وهو متعدد الثقافات في طوائفه وظلامي في مواقفه، هذه القبيلة يشمل فيها روس وشرقيين، متدينين وعلمانيين، اصوليين، مستوطنين وسكان تل ابيب، وعلى رأسها يقف الاشكنازي الابيض، شخص أوروبي لطيف، هو وزوجته، الذي بفضل أفقه الفكري الواسع احتل قلب محرر الملحق الأدبي لصحيفة “القبيلة البيضاء” القديمة.
كذلك، يجب علينا أن لا نخفي حقيقة اخرى بشأن “القبيلة البيضاء”: في حين أن القبيلة البيضاء القديمة لجيل المؤسسين، حتى لو اخطأت وارتكبت الذنوب وارتكبت الجرائم، إلا أنها آمنت بشكل مطلق بأفكار التنور والإنسانية.
لذلك أبقت للإسرائيليين الادوات القيمية للإصلاح الذاتي، حيث أن القبيلة البيضاء الجديدة تحتقر هذه القيم بصورة صريحة وتشجع القومية الدينية المتطرفة، مركزية العرق، وكراهية الاجانب، وتدعو بحماسة مسيحانية إلى تفوق العرق اليهودي بين النهر والبحر، ولا تترك مكان لأي تنافر اخلاقي بين القيم والواقع، الضروري احيانا من اجل تحريك الاصلاح الاجتماعي والسياسي. واذا لم يكن هذا كافيا، فإنه بوقاحة وبصورة ساخرة وعديمة الخجل، تواصل القبيلة البيضاء الجديدة انتقاد “الهيمنة الاشكنازية” من اجل طرح نفسها كمحاربة من اجل المساواة وحرف الانظار عن جرائمها الكولونيالية.
إلا أنه امام مكائد الـ “الهيمنة المناوئة” للقبيلة البيضاء، محظور علينا التشوش. في الحقيقة غادي طاوب لا يهاجم أخطاء وذنوب المؤسسين، بل القيم الانسانية والتنور التي آمن بها المؤسسون، لكنهم تخلوا عنها اثناء التطبيق. بموت عاموس عوز، المتحدث البارز عن هذه القيم، يجب عليه التمسك بها مجددا وبصورة أكثر شدة.