عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    13-Aug-2020

إلياس فركوح.. ابن عمَّان بامتياز في قصصه ورواياته

الراي - أبواب - وليد سليمان - الروائي والقاص «إلياس جورج باسيل فركوح» والذي رحل مؤخراً الى عالم الأرواح, يُعدّ من رموز الكتابة الإبداعية الأردنية والعربية.

وُلد إلياس فركوح في عمان في العام ذاته الذي شهد النكبة الفلسطينية 1948 ،وقد درس المرحلة الابتدائية في مدارس الفرير دي لاسال في عمان, كما درس المرحلة الثانوية في القدس حيث كان طالباً في القسم الداخلي, وأمضى أربع سنوات من حياته المدرسية هناك, وعاد بعد ذلك الى عمان.
وقد حصل على ليسانس فلسفة وعلم نفس من جامعة بيروت العربية, وعمل في الصحافة الثقافية خلال السنوات 1977- 1979من خلال جريدة الأخبار الأردنية اليومية التي كان يرأس تحريرها راكان المجالي.
كما شارك في تحرير مجلة ' المهد' الثقافية طوال فترة صدورها التي أسسها الشاعر الشعبي سليمان عويس.
وشارك مع الشاعر طاهر رياض العمل في «دار منارات» للنشر حتى 1991 ،إلى أن أسس «دار ' أزمنة» للنشر والتوزيع عام 1991 ،حيث عمل مديراً لها حتى وفاته. ابن عمان بامتياز
في إحدى شهاداته الإبداعية يقول إلياس فركوح:
أعتبرُ نفسي ابن عمّان بامتياز، وكثيراً ما رددتُ على الملأ بأنني (كائنٌ عَمّاني) ولأنني هكذا، ولأنَّ عمّان هي الحاضنة الأكبر في الأردن لجميع الحشود الاجتماعيّة الآتية من أُصولٍ ليست أردنيّة خالصة.. فقد كان أن توفَرَت لي الرؤية القادرة على ملاحظة تسلسل التطور الاجتماعي والسياسي لها كمدينةٍ جامعة وصاهرة.
وكان المبدع والمترجم وكاتب المقالات والقاص والروائي إلياس فركوح عقد عُرف في الساحة الثقافية الأردنية بالدرجة الأولى كقاص وروائي.. حيث أصدر العديد من المجموعات القصصية والروايات المهمة.
ومن المُلاحَظ تواجد مدينة عمَّان أكثر الأحيان من خلال ابداعاته وشهاداته الإبداعية بشكل واضح وبتفاصيل العديد من أماكن عمان وذكرياتها على لسان شخصيات قصصه ورواياته التي يقف هو نفسه كثيراً خلفها.. ومن ذلك مثلاً:
السينمات في شارع طلال
فقد ذكر إلياس فركوح ذات مرة قائلاً:
في عمان بخمسينيات القرن الماضي أذكر كان بيتنا في شارع الملك طلال.. حيث هناك ثلاث دور سينما شعبية هي: (البتراء) و(الكوكب) و(دنيا).. وكان بيتنا يقابل تماماً سينما (الكواكب).. فما إن تقطع الشارع من البيت حتى تكون في السينما.
أمَّا الذّهاب يميناً يعني الوصول إلى سينما (البتراء).. أما يساراً فيعني سينما (دنيا).
وكان عالم السينما في صغري وسيلة حفزت خيالي كثيراً، وحفزت لغتي أيضاً، وكأني كنت أبحث عن لغة.
ولم أعد أذكر أسماء تلك الأفلام التي كنت أشاهدها في السينمات الثلاث، لكن أذكر أن (الكواكب) كانت تعرض أفلاماً عربيّة وغربيّة كأفلام الكاوبوي وطرزان، وأفلام (إسماعيل ياسين)، وأفلام (تحية كريوكا)..
تلك التي كان أهلي يسمحون لي بمشاهدتها.
ويقول فركوح: والسينما في صغري كانت تعني لي (المهلبيّة) بشكل أو بآخر.. وكانت سينما (الكواكب) بقاعتها الصغيرة مائلة السقف قليلاً وأثناء عرض الفيلم يقوم البائع بالتّجوال وهو يحمل (اللوكس) وعلى يده (صينيّة) وُضِعَتْ فوقها صحون (المهلبيّة) الصغيرة، وينادي: (مهلبيّة).. بصوتٍ عالٍ.. فقد علقت بذاكرتي أكلة (المهلبيّة) مع رؤية الهندي الأحمر بريشة على رأسه، وبقيت ملازمة لذهني.
وهكذا... فحين كان يخرج (إلياس) من السينما، ويمشي في زحمة النّاس، وينزل درج سينما الكواكب، وهو مشبع بالذهول جرّاء الصّور والألوان والحركة، ثمّ يقطع الشارع ليكون على باب البيت، ثمّ ينظر ليرى (السّيل) سيل عمان القريب من البيت والنّاس.
وحينها وبشكل عفوي كان يقوم بعقد مقارنة ما بين عالم السينما الذي شاهده قبل قليل هذا العالم الملوّن بالمغامرات والبطولة، وعالم الواقع الذي يعيشه حيث يجده شيئاً آخر!! فلم يكن ليستطيع خلق معادلة تحقّق التّوازن ما بين العالمين!!.
لكن كما يبدو أن الكتابة لديه فيما بعد عندما كبر كانت واحدة من الإجابات على تلك المفارقات!.
الطباع ومنكو وجبري
ويقول فركوح عن عمّان القديمة:
لا يمكن فهم وجود سوق دون تاجر شامي اسمه (الطبّاع)، أو دون (سوق منكو)، ومنكو عائلة سوريّة، وعندما أتحدّث عن صاحب حلويّات، كيف سيتسنّى لي نسيان (جبري)، الذي عرفت الكنافة والبوظة عن طريقه!! فهو صاحب أول مطعم في الأردن تقريباً، وهو شامي، هذا يني أنه ليس سلطيّاً وليس كركيّاً.. أيضاً المدرّسون في المدرسة، ولهجاتهم المختلفة، إحداها تشوبها قسوة من البيئة البدوية، الأخرى فيها طراوة مدينيّة.
لكن كانت الروحانية في تلك المرحلة شبه واحدة، وكانت المواد تُدرّس بنفس المحبّة والصّراحة، وبنفس الأستاذية.
في ذلك اليوم
وفي قصة من قصص المبدع فركوح والتي تدور أحداثها في خمسينيات أو بداية ستينيات القرن الماضي نقرأ:
ذاك اليوم كان جافاً بارداً يخرق العظام بعد أربعة أيام من المطر المتصل.. فاض سيل عمان من جانبيه مكتسحاً كل شيء..فقد علا منسوبه المتلاطم واصلاً ارتفاع الجدار الواقي لسوق الخضار؛ ذاك الممتد حتى أعمدة جسر الحمَّام على طرفيه.
فقد كان ماء السيل يكاد يضرب باطن جسر الحمام مهدداً بغمره أيضاً.. ليتسع عرضاً من اليمين بداية طلعة وادي سرور.. ومن اليسار حيث الحمّام التركي- حمام النصر- ومحلات بيع المعاليق، والكرشات والفوارغ.
وكذلك العيادة حيث ابو عودة التمرجي, بحقنته التي كنَّا نتهيّب التفكير بها.. فلم يعد بمقدور أحد التمييز بين صوت هديرالسيل المرعب وهول الاستغاثات الحيوانية لخيل وحمير وأبقار خان «أبو خليل الشركسي».
فقد اقتحمت المياه الطينية الهائجة بأمواجها العاتية المدوية أبواب الإسطبل لتصل الى مراقد الحيوانات.
امَّا «خضر شاويش» فقد كان خفيفاً في كل شيء؛ في حركته وفي كلامه، وفي عمله حين يكشط فروة الجلد المُقدّد بالملح, ليهيئه فوق فوهة الطبل الفخاري.
وخفيفاً في عراكاته مع أشقياء المنطقة وبلطجيات الليل عندما يمرون، وقد تعتعهم السُّكر، ببراكيته الخشبية على جانب السيل. و بإشهاره للموس «ابو سبع طقّات» في وجه من لا يقتنع بأن «يكف شره عنه» بالكلام.
كان خضر كالنمر كما في أفلام طرزان، تلك التي يحرص أبي أن يكون خضر من يرافقنا أنا وأخي إلى صالات عرضها في سينما البتراء، ودُنيا، والكواكب، والفردوس.
لم تكن عمان قد تغربت
وفي موضع آخر من القصة نقرأ:
لم تكن عمان قد تغربت وغادرت التلال المحيطة بوسط البلد.. فقد كانت عمان تصب ناسها الى صحنها» قاعها» صباحاً.. نازلة بهم أدراجها الاسمنتية طازجين دافئين، كحلاوة السميد الساخنة التي تعدها أمي أو عمتي بالسمن البلقاوي.
وكانت عمان تجلي الناس عن صحنها مساءً، ساحبة إياهم على أدراجها يلهثون مرتخين، كآخر الخيط من «درزة» أبي الخياط في طقم أنهى تفصيله لسيدة من «الستات الكبار».
فقد كان أبي يمسك بمقصه اللامع المحفورعليه ماركة «سنجر» وهي نفسها ماركة ماكنة الخياطة بدولابها الذي يضغط بقدمه على دواستها فيدور، ويقطع زائد الخيط كي لا يبقى متدلياً.
وعن مرحلة نهاية الستينيات وبداية السبعينيات يقول فركوح في قصصه ورواياته: كم كان عدد مرات مشاهدتي للفيلم الأشهر «أبي فوق الشجرة»–لا تُحصى لأنها مرات عديدة.. أذكر من بينها ثلاثة عروض صباحية في سينما فلسطين، غبت فيها عن المدرسة بذرائع كاذبة:
عند شارع الشابسوغ
ففي قلب المدينة- عمَّان- أمشي متفكراً بذريعة لتغيبي عن المدرسة، بينما لم تفتح المحال التجارية بعد.. وكنت أضيق بحقيبة كتبي، إذ تشهد على طيشي وتعلنه على الملأ.. تمشي معي حقيبتي كلما خطوت بأي اتجاه تقودني إليه قدماي.
كنت أمرُّ بمفارش بائع الكعك، المنصوبة فوق ركائزها عند مداخل أزقة البنايات.. أشتهي قضمة أو أكثر إذ يتحلب فمي.. فرائحة الفلافل في بطن الكعكة تنسيني شبع إفطاري منذ أقل من ساعة.. أقاوم هذا الإغواء وأمضي, الى أين أمضي!.
كنت وصلت بداية صعود شارع الشابسوغ، وما كان منصب الفستق قد أقامه صاحبه الأسمر بضحكة أسنانه البيض وعينيه الحمراوين.. ففستقه دافئ دائماً.
ولم تكن الأبواب الحديدية الشبكية لمحلات الصاغة والذهب مرفوعة بعد، غير أن المعروضات خلف زجاج واجهاتها النظيفة بائنة للعيون.
أنا لم أحب الذهب أبداً.. وأبي لم يمل من كثرة رفضي شرائه لي خاتماً من ذهب!! فقد كان كلما مررنا بمحل أندريا الرفيدي صاحبه الصائغ، يعاود كأنما يرجو:
- «طيب.. ما رأيكَ بسوار نحفرُ عليه اسمك؟!».
- «لا أريد».
فيلم داراكولا
كان أخوك يغريك بمشاهدة أفلام «دراكولا مصاص الدماء».. فكنت تغلق عينيك، عندما يهم بغرز نابيه في رقبة ضحيته، وتعمل على طمأنة نفسك بتذكيرها الملهوج بأنك في سينما الفردوس ولست في قصر أمير الظلام دراكولا.
فأنت في عمان، بينما الرجل ضامر الوجه خيال على قماشة الشاشة، وأنَّ عشرين درجة فقط تفصلك عن بيتكم!! وما عليك إلا أن تفلت من الصالة المظلمة وتخرج الى ضوء النهار.
لتهبط الدرجات دون الالتفات لنصبة الشاي على الرصيف، فتجتاز الشارع لتصيرأمام باب البيت.. وما كنت لتبقى حتى نهاية الفيلم!!.