عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    01-Sep-2020

الفرجة الشعبية تعبير عن الهوية الثقافية المغربية

 القدس العربي-عز الدين المعتصم

تشكل الثقافة الشعبية الجزء الأوفر من مكونات تراثنا الثقافي والفني والفكري، لاسيما أن السواد الأعظم من الناس يتمسك بهذا النوع من الثقافة، لأنه قريب إلى تكوينها العامي ولغتها العامية ومخيالها البسيط، المرتكن إلى الحكمة والتجربة والمراس والأمثال والفكاهة.
فلكل شعب أشكاله الاحتفالية الفطرية التي تتجسد في الألعاب الطفولية والطقوس الشعائرية والدينية والصوفية والكرنفالية، وتتجلى كذلك في الاحتفالات الشعبية بالمناسبات الدينية والأعياد الوطنية. والمغرب بدوره يزخر بمجموعة من الفُرجات الاحتفالية المتنوعة، التي تمثل هوية الإنسان المغربي، وتعد جزءا من تاريخه وحضارته وكينونته، لكونها تندرج ضمن الأشكال الماقبل ـ مسرحية التي ارتبطت بالإنسان المغربي منذ عهد بعيد، لكن الأقلام لم تدونها، لكونها كانت احتفالية وشفهية. بيد أن الموروثات الشعبية تعد أداة من أدوات التواصل الثقافي بين أبناء الجنس البشري، ومن ثمة فالعودة إلى التراث ينبغي أن تكون وسيلة لتنميته والامتداد به نحو المستقبل بقيم متطورة بعيدة عن السطحية والابتذال.
ومن هذا المنطلق تروم هذه المقالة الكشف عن الفرجة الشعبية المغربية، باعتبارها شكلا من أشكال التراث اللامادي في المغرب، التي تعبر عن وجود ذاكرة شفهية قادرة على الإبداع.
 
حول التراث اللامادي في المغرب
 
يقصد بالتراث كل ما هو متوارث، بما يحوي من الموروث القولي، أو الممارس أو المكتوب، إضافة إلى العادات والتقاليد والطقوس، والممارسات المختلفة التي أبدعها الضمير العربي، أو العطاء الجمعي للإنسان العربي قبل الإسلام وبعده، وهو أيضاً المخزون النفسي المتراكم من الموروثات بأنواعها في تفاعلها مع الواقع الحاضر، أو هو الحصيلة الثقافية التي تتبلور فيها ثقافة وخبرات وحكمة الشعب. والتراث ليس كياناً معنوياً منعزلاً عن الواقع، بل هو جزء من مكونات الواقع، يوجه سلوك الإنسان في حياته اليومية.
إن التراث يمتد ليشمل الإنسانية، بدون تحديده بحدود قومية، فهو تعبير عن هوية عربية خاصة، يعبر عن مجموع ما ورثناه، أو أورثتنا إياه أمتنا العربية من الخبرات والإنجازات الأدبية والفنية والعلمية، ابتداء من أعرق عصورها إيغالاً في التاريخ حتى أعلى ذروة بلغتها في التقدم الحضاري، حسب الباحث طراد الكبيسي، في كتابه «التراث العربي؛ مصدر في نظرية المعرفة والإبداع في الشعر العربي الحديث». ومن المعلوم أن التراث لا يقتصر على المدون المكتوب وحسب، وإنما يشمل جانبا مهما في حياة الشعوب متمثلا في التراث الشفهي، وهو وثيق الصلة بنبض الجمهور حراكا وسكونا، رجاء ويأسا، قوة وضعفا، وهو بذلك يعبر عن هوية الشعب.
ومن المكونات الأساسية لهذا التراث نجد الأدب الشعبي، الذي يعد تعبيرا لغويا عن الممارسة السلوكية الكائنة أو المتوقعة أن تكون، سواء على مستوى المادة أو الروح. وأجناس الأدب الشعبي كثيرة ومتنوعة منها: الحكايات والأمثال الشعبية والنوادر والألغاز، ثم الشعر الشفهي الذي يعد عنصرا رئيسا في تحقيق الفرجة الشعبية، لكونه يضطلع بدور مهم في التعبير عن الحياة الاجتماعية والثقافية للمغاربة، بيد أنه لماما ما يعترف لأشكال الفرجة الشعبية بمزاياها في الأوساط الأدبية الكلاسيكية، التي ترفض اعتبارها إبداعا خلاقا يستحق العناية، وموقف الرفض هذا قد أعاق صيانة وانتشار وتألق هذه الأشكال الما – قبل مسرحية. والحقيقة أن أنواع الفرجة الشعبية تقتضي دراسة جادة وفعالة، تسهم في التغلغل في عالمها وتعمل على معرفتها واكتشاف رجالاتها وأشياخها، وكذا دراسة بلاغة أشعارها وكشف محتواها، وتحليل مختلف مكوناتها التي تجمع بين الذات والجماعة، بين المتخيل والمعاش.
يتضح أن التراث الشفهي/ اللامادي في المغرب إبداع إنساني عريق يقوم على طقوس كلامية، تتصل بالحياة اليومية، وترسم في غناها وتنوعها العديد من الدلالات والمعاني الرمزية، التي تنمو وتتحول داخل وجدان جمعي مشترك. في عمق هذا التراث الشعبي اللفظي، تشتغل مجموعة من التعبيرات الشفهية على الذاكرة واللسان بوصفهما يشكلان الحافظة الجمعية التي بات الاعتماد عليها أمرا ضروريا لصون هذه الإبداعات القولية، في غياب حركة تدوين حقيقية قادرة على تحويل الخطاب اللساني من مجال التداول الشفهي إلى إطار التلقي المكتوب.
 
2- مفهوم الفرجة الشعبية
 
تعد الفرجة أشمل من الأداء ومن المسرح، ذلك لكونها تستوعب الاثنين معا، بل تتجاوزهما لتشمل الشعائر والاحتفالات والمراسيم والسيرك وأشكال الاحتجاج الجماهيرية. ويحفل المغرب بالعديد من السلوكات الفرجوية الشعبية من قبيل الحلقة ورقصات أحواش وأحيدوس وبابا عيشور، وبوجلود واعبيدات الرمى وغيرها كثير. لكن الفرجة تختلف من قطر إلى آخر، تبعا لتباين عادات الشعوب والأمم، ومن ثم فكل طقس ديني أو احتفال جمعي يحاول أن يمثل دراميا الأسطورة المرتبطة بالمقدس، ويجعل الوعي به في السلوك والحياة الاجتماعيين، وبإحياء الطقس واستعادة عروضه الإيمائية التقليدية، يحول إلى نوع من الاحتفالات، والاحتفالات إلى نمط من الفرجة، وهذا ما تجسده كثير من الطقوس والشعائر الدينية العتيقة.
ويعرف رتشارد شيكنر الفرجة بأنها عبارة عن سلوك مصاغ أكثر من مرة، أما كليفورد كارثر فيعرفها بكونها قصة يرويها الناس لأنفسهم حول أنفسهم. مما يوحي بأن الفرجة عبارة عن دراما اجتماعية مصغرة، تفصح عن لحظات حاسمة ودالة في الثقافة الإنسانية. ومن ثمة تسهم الفرجة إسهاما وافرا في مدّ جسور التواصل بين الناس، لأنها تعرض أمام جمهور يتشكل من أغلبية لها ذاكرة مشتركة مع صانعي الفرجة.
وقد ارتبطت الفرجة قديما بتأثير الأسطورة على الإنسان والممارسات البدائية لطقوس الرقص الإيمائي في الاحتفالات الشعائرية، وبالذات لطقوس الخصب والصيد والاحتفالات الأخرى المتعلقة بالسيطرة على مظاهر الطبيعة والتواصل معها وتفسير وتبرير المجهول والغامض. غير أن الأساطير والطقوس يمكن مقاربتها بوصفها صيغا من صيغ القول التي تعبر عن الوجدان الجمعي للشعوب. لأن الفرجة، كما يذهب إلى ذلك خالد أمين، أكبر من مجرد تمثيل لحضور ما أو أيقونة لفعل تواصلي.
تعد الفرجة، إذن، طريقة يعي بها الناس ثقافتهم، وفي الوقت نفسه، هي وسيلة الإeنوغرافي لإنتاج وعي معين حول الثقافة ذاتها. بيد أن كلود ليفي شتراوس يفرق بين الأسطورة والطقوس بقوله: الأسطورة والطقس يعتبران صنوين في جميع الأحوال، بحيث يكون أحدهما نسخة عن الآخر، بل يمكن أن نقول بالمقابل، إنهما يتكاملان في بعض المجالات التي تتصف بمواصفات متكاملة، إذ يبدو أن قيمة الطقس الدالة تكمن في الأدوار والحركات التي تستعمل، وتعتمد عند الأداء. فهو في هذه الحالة بمثابة الكلام الرديف، في حين أن الأسطورة تبدو بمثابة الكلام الماورائي».
وإجمالا نستطيع القول إن مفهوم الفرجة يتضمن في خلفيته معنى إحداث تأثير في النفس والآخرين؛ أي انكشاف الغم ومشاهدة ما يتسلى به المتفرج. حيث إن «الفرجة» أصبحت اسما جامعا للعديد من السلوكات الفرجوية، لكن مع مراعاة مقتضى الحال. فدلالة التضمين في كلمة «فرجة» تشمل دلالة اللفظ على جزء مسماه، باعتبار مشاهدة ما يتسلى به، الذي يحيل مباشرة على ردود فعل المتفرجين أثناء فعل المشاهدة والمشاركة. باختصار، تنطوي «الفرجة» على قوة الفعل وردة الفعل، وهي بذلك تظهر المقصود بأبلغ لفظ. فالفرجة توجد من حيث هي فعل التفاعل بين طرفين. كما أن الوجود الجسدي بين المؤدين والجمهور يعد شرطا مسبقا لإنجاز فرجة ما.
 
انطلاقا مما سبق ذكره، نستشف أن الفرجة الشعبية تسهم في توثيق الموروث الشعبي العريق والمميز للهوية الثقافية المغربية، إلى جانب نشر الفرجة الراسخة في تاريخ ووجدان الشعب المغربي، بإبداعها المتواصل في سماء الإيقاعات المغربية. وتبعا لذلك تعد مكونا أساسا من مكونات هويتنا الوطنية التي تتسم بتعدد المكونات والأبعاد، كما تمثل منفذا وفسحة للعبور إلى الآخر والواقع اليومي، وتشكل نافذة للتنفيس عن الذات، وغسلها مما علق بها من أدران وأحزان جرّاء مقارعتها للأتعاب اليومية، ما جعلها تنال إعجابا من لدن الناس على تنوع ثقافاتهم ولغاتهم وأجناسهم ومستوياتهم المعرفية.
 
٭ كاتب مغربي