عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    17-Nov-2023

لماذا يفشل جيش الاحتلال في الحروب غير النظامية؟

 تمثل غزة عقدة خاصة بالنسبة لدولة الاحتلال، فهي من اهم القلاع الباقية لمقاومة الفلسطينيين ضد محاولات محوهم وتصفية قضيتهم، وهي تكتظ بفصائل المقاومة الفلسطينية التي باتت العدو الأول والتهديد الرئيس للاحتلال. يبدو غريبا أن تنجح جماعات المقاومة محدودة التجهيز والتسليح في إيقاف الحياة وإلحاق الضربات بقوة نووية تملك واحدا من أقوى جيوش المنطقة -بل والعالم- بحسب الدعاية التي تروِّجها دولة الاحتلال باستمرار، خاصة أن الولايات المتحدة وأوروبا تصطفان إلى جانبها منذ تأسيسها، غير أن هذا ما تقوله الوقائع المتلاحقة منذ اندلاع الانتفاضة الثانية مرورا بفصول متكررة من المواجهات غير النظامية بين جيش الاحتلال وفصائل المقاومة في كل من فلسطين ولبنان.

 
 
تقول دراسات عسكرية أجراها مركز "راند" التابع للجيش الأميركي إن تحليلات محاولات الغزو البري لغزة منذ عام 2008 كشفت للقادة الأميركيين أن الاحتلال لم يتمكن في أي مرة من سحق المقاومة، بل كانت مجبرة في كل مرة على التكيف على أرض مدنية ذات طبيعة معقدة مع خصم محدود الإمكانات مقارنة بها. أما أخطر ما تمتلكه المقاومة -على حد وصف التقرير- فهو أنها خصم هجين قادر على الانتقال من الحرب غير النظامية أو حرب العصابات إلى الحروب التقليدية، وهي معادلة وضعت الاحتلال في مأزق إستراتيجي منذ 2008.
 
قوة حماس العصية 
على التدمير
عدم امتلاك الاحتلال قدر كبير من المعلومات الاستخباراتية عن البنية التحتية لحماس في القطاع عقد الموقف وأوصله إلى حافة اليأس.
من بين كل أدوات القوة التي تمتلكها حركة حماس تأتي الأنفاق على رأس التهديدات الأمنية لجيش الاحتلال، حيث تضم الشبكة الخاصة بها 1300 نفق تتفرع في متاهات تحت الأرض مسلحة بالخرسانة، ويبلغ طولها الإجمالي نحو 500 كيلومتر، ويصل عمق بعضها إلى 70 مترا تحت الأرض. وقد أتاح ذلك السلاح للمقاتلين التنقل بحرية نسبيا بعيدا عن القصف، والتحرك في جميع أنحاء غزة دون تعريضهم للخطر أو للكشف من قِبَل الرصد الجوي، وكذلك إعادة إمداد القوات، وتخزين الأسلحة والصواريخ، وإخفاء الأسرى، وشن هجمات مفاجئة. ورغم أن إسرائيل سخَّرت ما تمتلكه من تكنولوجيا مثل أجهزة الاستشعار والكاميرات الحرارية لتحديد مواقع تلك الشبكة الغامضة، فإنها أخفقت في اكتشافها أو تدميرها كليا. على سبيل المثال، في أثناء معركة سيف القدس عام 2021، ركز الاحتلال على تدمير الأنفاق، واستطاع بالفعل تدمير 100 كيلومتر منها وفق تأكيداته، قبل أن يظهر رئيس المكتب السياسي للحركة "يحيى السنوار" ويعلن أن 5 % فقط من الأنفاق هي التي تضررت، وأن المقاومة شرعت في إصلاحها، كأن شيئا لم يكن.
تعد الأنفاق معضلة بالنسبة للاحتلال، إذ لم تتمكن الوحدات المختصة التي استحدثها جيش الاحتلال من مهندسين وجيولوجيين من الوصول إلى حل جذري لها، ما دفعها في كل مواجهة مع حماس إلى تأخير التدخل البري في قطاع غزة. كما أن عدم امتلاك الاحتلال قدرا كبيرا من المعلومات الاستخباراتية عن البنية التحتية لحماس في القطاع عقَّد الموقف وأوصله إلى حافة اليأس. 
بخلاف سلاح الأنفاق، يرى الاحتلال أن أهم نقاط قوة حماس هي تداخل بنتيها المدنية والعسكرية في قطاع ضيق تبلغ مساحته 365 كيلومترا مربعا، ويكتظ بنحو مليوني شخص، ما يجعل أي استهداف كارثيا على المستوى الإنساني، ويجلب عليها الضغوط والإدانات الدولية، ويضع الأميركيين أمام مساءلة أخلاقية بصفتهم أكبر داعميها. بدأت تلك الأزمة في اعقاب حرب عام 1967، حين شن الاحتلال حملة على الفلسطينيين، وسعى إلى إفراغ القطاع من سكانه الذين نزحوا إليه بعد النكبة. وفي أثناء معركة "طوفان الأقصى"، ظهرت وثيقة استخباراتية إسرائيلية رأت في الحرب الدائرة فرصة لإجلاء قطاع غزة بأكمله، في إشارة إلى استمرار هوس الاحتلال بتهجير سكان القطاع لحل معضلة المقاومة الضاربة بجذورها في المجتمع الفلسطيني.
نتيجة لذلك، طالما أبدى الاحتلال ترددا في وضع أهداف عسكرية كبرى فيما يتعلق بحركة حماس، مكتفيا بالقول إن الحروب التي خاضتها ضد الحركة كانت بهدف فرض القوة الكافية لردع المقاومة عن القيام بهجماتها دون الإطاحة بحماس بالكامل. ومع ذلك، كان من الواضح أن الاحتلال فشل حتى في تحقيق هدفها المحدود المعلن، بعدما امتلكت الحركة قوة عسكرية لافتة، وأسلحة مكنتها من تقويض الردع للاحتلال، ولذا وجدت دولة الاحتلال نفسها أمام السيناريو الأسوأ وهو ضرورة احتلال القطاع لتحقيق أهدافها، وخوض حرب برية طويلة، رغم ما يحمله ذلك السيناريو من صعوبات على جيش الاحتلال.
يجهر الاحتلال هذه المرة برغبته في القضاء على حركة حماس نهائيا، بيد أن كثيرين ومنهم رموز في الإدارة الأميركية ذاتها لا يشاركون الكيان المحتل هذا التفاؤل. أولا لأنها فشلت من قبل في تحقيق أهداف أضيق نطاقا في حروبها السابقة ضد قطاع غزة، وثانيا لأنها لا تمتلك رؤية متماسكة حول مصير قطاع غزة عقب الاجتياح، وثالثا والأهم أن هذا الاجتياح يتطلب من الاحتلال خوض نوع من الحروب طالما أثبتت فشلها في تحقيق النصر خلاله مرة بعد مرة.
وتُشكِّل الجغرافيا عنصرا حاسما في تحديد مصير الهجوم البري على قطاع غزة، لأن تعقيدات المعركة في بيئة حضرية تختلف عن الحروب النظامية التقليدية، فقطاع غزة منطقة مكتظة بالسكان والمباني، وتوفر المباني مواقع قتالية مميزة للمدافعين، وحتى تحوُّلها إلى أنقاض عبر القصف الجوي المكثف يمكن أن يعوق تقدم الهجوم ويمنح المقاومة متاريس إضافية. وتتضاعف الصعوبات التي يواجهها الاحتلال أيضا بسبب وجود أعداد كبيرة من المدنيين الفلسطينيين الذين لا يملكون مكانا آخر يذهبون إليه. أضف إلى ذلك أن احتجاز حماس لنحو مئتي أسير يجعل حكومة الاحتلال في وضع حرج أمام الرأي العام، لا سيما وقد مضت في الحرب البرية وتجاهلت مطالب أهالي الأسرى.
للاحتلال تجارب سيئة مع مواجهة الجماعات المُسلحة غير النظامية مني فيها بفشل عسكري المرة تلو المرة. وقد بدأ ذلك بالانسحاب من لبنان عام 2000 ثم من غزة نفسها عام 2005، وبلغ ذروته في حرب تموز مع حزب الله عام 2006 "أو عقدة تموز كما يطلق عليها بعض الباحثين الآن"، ثم معركة "الرصاص المصبوب" عامي 2008-2009، ومن بعدها عملية "الجرف الصامد" عام 2014. -(وكالات)