عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    07-Dec-2025

أن تفكر كفلسطيني..! (20)*علاء الدين أبو زينة

 الغد

أعباء الفلسطيني
ثمة حوار ملفت أجراه الصحفي كريس هيدجز مؤخرا مع الأكاديمية الفلسطينية-الأسترالية ميكايلا سحّار. ويُظهر الحوار حقيقة عميقة عن خبرة الفلسطيني: إنه -بخلاف معظم الآخرين- لا يستطيع أن يختار العيش في العالم كزائر عابر أو مراقب من الهامش. إنه محكوم -بوعيٍ مفروض بقدر ما هو مُكتسب- بأن يكون شاهدًا دائمًا، متذكرًا دائمًا، محللًا دائمًا، متخيِّلاً دائمًا مراقبًا دائمًا. الذاكرة له ليست رفاهية ثقافية أو اختيارًا فكريًا، بل ضرورة وجودية. والمراقبة ليست عادة سياسية، بل تحسس حتمي لمكانه في العالم. والمتابعة الحثيثة لما يجري في كل مكان ليست اهتمامًا بالشأن العام، وإنما نمط حياة تفرضه حركة تاريخ لا يتحول إلى ماضٍ قط.
 
 
لا يستطيع الفلسطيني أن يتعامل مع الذاكرة بانتقائية. بخلاف الآخرين، ذاكرة الفلسطينيين ليست تراكمًا لأحداث الماضي بقدر ما هي حاضر دائم وحدثٌ غير مكتمل، يعمل في كل تفصيل يومي. ربما يستعيد الآخرون أجزاء من ذاكراتهم من باب الحنين، وينتقون من مخزونها لحظات سعيدة بينما يدفعون المؤلم منها إلى منطقة اللاوعي. لكن الفلسطيني لا يمتلك ترف النسيان أو التخفيف. إنه مضطر –لكي يبقى وليس أقل- لحمل ذاكرته كلها وفردها تحت الشمس كحزمة واحدة، لأنها الوطن نفسه. «وطني حقيبة، وحقيبتي وطن الغجر». إنها، بتفاصيلها المؤلمة قبل السعيدة القليلة، بطاقة هويته التي تُعرِّف تاريخه وتصف مكانه في العالم. وهو مضطر للحفاظ عليها وتطويرها وتوريثها كاملة للأجيال، حيث ثمة عبء نقل العبء للأبناء والأحفاد. حيث تكثيف ذاكرة الألم فعل مقاومة.
تقول سحّار في المقابلة: «أن تكبر كفلسطيني في الشتات يعني أن تكون مزودًا بنوع معين من «القوة الخارقة»؛ قدرتك على فهم الهوة الهائلة بين الثقافة المهيمنة وبين ما تعرفه أنت كحقيقة من خلال الناس الذين تحبهم وتثق بهم». من خلال قصص الآباء والأمهات، والصور والذكريات، ومفاتيح البيوت المسلوبة. الفلسطيني يعيش في عالمٍ تُعاد فيه صياغة الحقيقة سياسيًا وإعلاميًا بلا توقف، غالبًا في إنكار عنيد للحقيقة التي يعرفها الفلسطيني. وهو يجد نفسه مجبرًا على تفسير العالم وإقناع الآخرين بهذا التفسير: عليه أن يشرح دائما ما يبدو له بديهيا، لكنه مشكوك فيه أو غير موجود في رواية الآخر. مثلًا، يرى الفلسطيني عبارة «من النهر إلى البحر» وصفًا جغرافيًا بديهيًا لوطنه، بينما هي في السرد الآخر «جريمة» لغوية ودلالية تستوجب التبرير والاعتذار. ويضطر الفلسطيني، مرة وأخرى، إلى شرح العلاقة بين الجغرافيا والهوية والتاريخ، من موضع المتهم المطالب بإثبات براءته. هذا العبء التفسيري شكل من أشكال الإجهاد الوجودي. لكي يبقى الفلسطيني في العالم، يجب أن تكون قضيته جزءًا من لغته ومداولاته اليومية التي لا يفهمها الآخرون، ما يتطلب منه شحذ القدرة –والصبر- على الكلام والتعريف والتفسير.
تتحدث سحّار عن التضامن بين الفلسطينيين والسكان الأصليين في أستراليا، أو عن تحالفات مثل «الأمة الحمراء»، حركة السكان الأصليين في الولايات المتحدة. وفي الحقيقة، هذا جزء من اضطرار الفلسطيني إلى حمل عبء الانتباه والمراقبة. إنه يراقب كل حدث صغير في أبعد ركن في العالم، من فنزويلا، إلى أوكرانيا، إلى موقف الصين في بحر الصين الجنوبي. الفلسطيني يرى تشابكات العالم بطريقة مختلفة. إنه يشعر بالقرابة بين الشعوب الأصلية، بين ضحايا الاستعمار، بين أولئك الذين تعرضوا لمحو الوجود واللغة والذاكرة. ولأن الفلسطيني خبر هذه التجربة بعمق، فهو قادر على رؤية الروابط التي قد لا يراها غيره بسهولة. وهو يرى أي انتصار أو حراك ضد الظلم والهيمنة اصطفافا في معسكره وانتصارا لقضيته. الفلسطيني يعيش في علاقة مع العالم ليست أفقية، بل عمودية: إنه يرى الطبقات، البنى، والتشابه في الجراح، والاستمرارية والاتصال بين أنظمة القمع. هذا الوعي المركّب جزء من عبء الاضطرار إلى قراءة العالم من زاوية تاريخه الطويل من النكبات.
تقول سحار: «إن فهم 1948هو أيضًا، بمعنى ما، فهم 2025. والتفكير في أننا -بينما نتحدث يا كريس- في أن النكبة فاتت على الناس تمامًا. الناس ذهبوا وكتبوا عنها ولم يفهموها. وبمعنى ما، فإن الإبادة الجماعية (في غزة) أيضًا فاتت على الناس». الآخرون لديهم الحقائق أمامهم ويرفضون وصل النقاط وفهم المعنى الأكبر. والفلسطيني يعيش منذ 1948 في هذا النطاق: أن يكون شاهدًا على ما يتم إنكاره، حافظًا لما يتم محوه، مصحِّحًا لما يجري تشويهه. على الفلسطيني عبء الشهادة، لا كفعل أخلاقي فحسب، وإنما كفعل حماية لمعنى وجوده نفسه. على الفلسطيني عبء أن يعرف الحقيقة، ويتمكن من العيش في عالم يرفضها.
عبء الفلسطيني أن يعيش في العالم مطلوبًا منه فيه أن يتذكر حين يريده الآخرون أن ينسى، وأن يراقب حين يريده الآخرون أن لا ينظر، وأن يفسّر حين لا يرغب أحد بالاستماع، وأن يقيم الصلات ويصل النقاط ويربط الماضي بالحاضر بينما لا يرى العالم إلا اللحظة.
أعباء، لكنها أيضًا مصدر تلك «القوة الخارقة» التي تحدّثت عنها سحّار، التي تبقي الفلسطيني قادرًا على البقاء في الجغرافيا، وأيضًا في السرد والمعنى والذاكرة. قوة أن تعرف الحقيقة، وأن تواصل قولها حتى حين يصمت عنها العالم كله، ويفعل كل شيء ليجعلك تصمت.