الغد
الناقد والمبدع الكبير هو اللبناني محمد دكروب. عصامية تستحق أن يُشاد بها. من بائع ترمس وبائع خبز وفلافل وعامل بناء، ومن سقاء للعمال الزراعيين إلى مساعد لأبية (السمكري) إلى ناقد أدبي كبير على المستوى المحلي والعربي. تلقى التعليم الابتدائي لمدة أربع سنوات فقط، وترك المدرسة قبل نيل الشهادة الابتدائية بسنتين لضرورات العيش.
محمد دكروب أدمن القراءة مبكرًا رغم ظروف عمله القاسية.
استقطبته مجلة "الثقافة الوطنية" في لبنان للعمل محررًا. وأخيرًا آلت إليه مجلة "الطريق" اللبنانية حيث تولى رئاسة تحريرها. تفرد بمنهجه النقدي عن الآخرين، فهو يرى أن للإبداع خصوصية تتطلب نقدًا (يلقي الضوء عليها)، ولا يكتفي بمدى تطابق الإبداع مع حرفية النظريات العالمية.
وهنا نراه يشير إلى أخطاء الكثيرين من النقاد الماركسيين الذين كانوا يجهدون لرؤية التطابق بين النظرية في عموميتها والتركيب الاجتماعي/الاقتصادي لبلدانهم مع البلدان والمجتمعات الأخرى ويبتعدون وإن بمسافات مختلفة عن رؤية الاختلاف في التركيب لمجتمعاتهم، التي لها بالتأكيد خصوصيتها وكونها بذلك جزءًا في حركة تطور العالم.
رفض دكروب عزل العمل الفني عن مهاده الاجتماعي، فمثل هذا العمل إن ادّعى أصحابه (استقلالية العمل الفني) يجعلهم عاجزين عن كشف كمول العمل الفني. (محمد دكروب: تساؤلات أمام الحداثة العربية والواقعية، ص 17).
وفي دراسته للتراث، فهو يدعو إلى انطلاق أي دراسة معاصرة له من الموقع الوطني الديمقراطي.
وفي رأيه، فإن أي دراسة للتراث القديم ينبغي أن تنطلق من حقول صراعية، وتتفرع الى مدارس ومذاهب وتيارات راهنة في الفكر والسياسة والفكر الديني شريطة الابتعاد عن التعصب والانغلاق.
في كتابه (وجوه لا تموت) حاول محمد دكروب بذكائه ودقة ملاحظته ان يتعرف على معالم في الشخصية الإنسانية لعدد من المبدعين العرب من حيث خصوصيتها ومدى تمازجها– كما يقول- بالنصوص التي أبدعتها.
إن أشد ما يكرهه هذا الناقد الكبير هو التعصب والانغلاق، كما انه ضد أي طغيان سياسي أو مذهبي أو ثقافي على العمل النقدي لأن ذلك يخفف المنسوب المعرفي الموضوعي في هذا العمل النقدي، ويعود فيستدرك قائلاً: لكن هذا لا ينفي واقعًا أن للأيديولوجيا حضورًا طبيعيًا وموضوعيًا، وإن بنسب مختلفة في مواقف أو مواقع أو فكر هذا الناقد أو ذاك.
والمعنى أن هذا الناقد الأدبي لا يستطيع مهما حاول ان يعزل نفسه عن موقفه شريطة أن يحرر نفسه من التأثير السلبي الأيديولوجي.
والملاحظ هنا ان دكروب يصر دومًا على ادخال القارئ في العمل الأدبي. فمن حق هذا القارئ أن يرفض أو ينقد النص الذي يقدمه له المبدع.
وبمفرداته: "من حق القارئ ان يحلل النص بامتدادات خارج نصّيه". (كتاب "في مفاهيم النقد وحركة الثقافة" ليمنى العيد، تقديم محمد دكروب ص 22).
وفي تعليقه على النقد الأدبي العربي الواقعي يرى دكروب أنه يخرج من زمنه ويدخل في أفق جديد مختلف أكثر عمقًا وأكثر واقعية. وهو هنا يعني ويؤكد احتفال هذا النقد بالعديد من الأساليب ومناهج النظر والاجتهاد التي تسير العمل النقدي وترى الى علاقته الداخلية وعلاقاته بحركة المجتمع وبالأيديولوجيا واللغة وبالمبدع نفسه.
بعبارة أخرى فهذا الناقد والمبدع يطلب فضاءً رحيبًا للنقد، فلا يظل -كما أسلفت- أسير نظريات يتم التقيد بحرفيتها.
وبمفرداته: "العمل الفني الأصيل لا يستنفذ، ولا تستنفذ دلالاته وتأويلاته". (دكروب "تساؤلات أمام الحداثة" ص 6).
وبعد، إن سيرة هذا الناقد والمبدع الكبير تبرهن على العصامية، وعلى أن إرادة الإنسان حين يتم تفعيلها تستطيع قهر كل التحديات.