عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    11-Oct-2019

«مذبحة باريس» وعودة القضاة

 

 
د. محمد عبدالله القواسمة
الدستور- «مذبحة باريس» هذا هو العمل المسرحي الثاني من أعمال الشاعر والكاتب المسرحي الإنجليزي كريستوفر مارلو  Christopher  Marlowe(1564-1593) الذي يترجمه إلى لغتنا العربية الصديق عودة القضاة، فقد ترجم قبل هذا العمل مسرحية»يهودي مالطا» عام 2017م. ولعل هذه الترجمة تبعث سؤالين مهمين: لماذا هذا الاهتمام الكبير بمارلو حتى يترجم له القضاة عملين مسرحيين؟ ولماذا مذبحة باريس هذه المرة؟
لا شك في أن كريستوفر مارلو يلفت الانتباه  بتلك الحياة الصاخبة التي عايشها في عهد الملكة إليزابيث الأولى؛ إذ كان عميلًا سريًا يسافر كثيرًا إلى فرنسا ليتجسس على الكاثوليك؛ فقد كانت الملكة أنغليكانية تخشى من مؤامرة كاثوليكية عليها. وعندما ترددت جامعة كامبيرج في منحه درجة الماجستير لكثرة غيابه عن الدراسة تدخل مجلس الملكة لدى إدارة الجامعة لتمنحه الماجستير تقديراً لخدماته التي قدمها للملكة. وكانت نهايته أن قتل في حانة لأسباب غامضة ولما يتجاوز التاسعة والعشرين من عمره.
مع هذه الحياة القصيرة التي كابدها مارلو فإنه أنجز أعمالاً شعرية ومسرحية كثيرة؛ وترك بصماته على الشعر الإنجليزي، وكان تأثيره كبيرًا بمرونة شعره المرسل القوي، وأسلوبه البليغ، كما في ملحمته المهمة «هيرو وليندر» التي نشرت عام 1598. ويعد مارلو أب المسرح في عصر النهضة؛ وهو من الذين عبَّدوا الطريق لشكسبير كي يبدع مسرحياته، حتى إنه اعتمد عليه في مسرحيتيه: تاجر البندقية، وإدوارد الثاني، وترك للمسرح ست مسرحيات هي:  «يهودي مالطا» التي يقال إن شكسبير تأثر بها في تأليف مسرحيته «تاجر البندقية».و»تيمورلنك العظيم»،و»ديدو ملكة قرطاج»، و»إدوارد الثاني»، و»الدكتور فاوست «.أما مسرحيته الأخيرة فهي «مذبحة باريس»التي هي محور حديثنا.
لعل اهتمام مترجمنا القضاة بمسرحية «مذبحة باريس» يأتي من خلال حرصه على تقديم أعمال كلاسيكية معروفة، تتناغم مع هذه الأيام التي تكثر فيها الأحداث الدموية في منطقتنا العربية، والتي يرجعها بعض المفكرين والسياسيين الغربيين إلى أحداث دموية شهدها العرب في الماضي السحيق؛ فكأنه يقول لهؤلاء: إن التاريخ الأوروبي يطفح بجرائم ومذابح أكثر دموية ووحشية مما شهده العرب في حياتهم الماضية؛ فمذبحة باريس تلك المذبحة التي تقدمها المسرحية هي مذبحة حدثت على أرض الواقع، وهي من أشهر المذابح التي دارت بين الكاثوليك والبروتستانت وراح ضحيتها ما ينوفُ على ثلاثين ألف قتيل وآلاف الجرحى، فالمجتمعات الإنسانية قد تتعرض في فترات مختلفة من تاريخها إلى مثل هذه الأعمال الوحشية.
هكذا، فإن ربط أحداث الماضي بما يجري في الحاضر يتجلى في إقدام القضاة على ترجمة «مذبحة باريس» لمارلو.كما تجلى ذلك في ترجمته مسرحية «يهودي مالطا» التي تتلاءم مع ما يمارسه المتغطرس الصهيوني على الأرض العربية، والذي لا يترك منطقة من مناطق العالم إلا وتكون له يد في إشعال ما ترزح تحته هذه المناطق من حروب، فهو لا يفتأ يمارس اعتداءاته على دول العالم وإثارة الفِتن فيها، مثلما فعل «باراباس»بطل مسرحية «يهودي مالطا»، فكان ذاك التاريخ المظلم الذي غرقت فيه التجمعات اليهودية في البلاد الأوروبية.
إن أهمية ترجمة عودة القضاة لمسرحية «مذبحة باريس» لا تأتي من كونها تتلاءم مع هذا العصر وما يشهده من كوارث بشرية فقط، بل أيضًا لأنها أول ترجمة عربية لهذا العمل الذي يتميز بكثرة الشخصيات، وتشابه أسماء بعضها، وتفرد أحداثها وتعقيد حبكتها، ولغتها الكلاسيكية القوية.
لقد استطاع القضاة أن يقدم ترجمة محكمة لمسرحية « مذبحة باريس» عندما لجأ إلى  استخدام لغة عربية تجمع بين الجزالة والسهولة. ربما أن عدوى كلاسيكية أدب عصر مارلو وشكسبير انتقلت إليه؛ فبرزت في هذه الترجمة. لهذا نلاحظ حرصه على استخدام الألفاظ الجزلة، مثل: الكأداء، أشاوس، شآبيب، وتعابير وجمل قديمة، مثل: في سويداء القلب، لا ديدن لهُم، الأمور تجري في أعنَّتها، نَكبَح جِماح غضبنا. كما نجده أحيانًا يحلق في الخيال عبر الأساليب البلاغية المختلفة، مثل قوله: فإما أن أمزِّقه بأظافري، وأُحيله عدماً، وإما أن أمتطي أجنحة الطّموح وأطيرُ إلى تلك القِمّة..»
لا شك أن مثل هذا الاستخدام للغة يعود إلى فهم القضاة للغتين العربية والإنجليزية، واطلاعه على الثقافة الإنجليزية، واعتقاده القوي بأن ترجمات الأعمال الإبداعية، مثل الشعر والرواية والمسرحية؛ هي بدورها أعمال إبداعية، لهذا، لا بد من أن يطلق المترجم العنان لخياله في تقديم الصور والرموز والحيل البلاغية مما يحتمله النص، وبما لا يخل بمعناه الأصلي؛ فلا متعة، ولا فائدة كبيرة، ولا حيوية لترجمةٍ أدبيةٍ تخلو من بصمات المترجم وأسلوبه وخيالاته.
لهذا، لا عجب أن يلجأ عودة القضاة في ترجمته إلى شرح كثير من الألفاظ في حواشي الكتاب، واستخدام الإحالات الكثيرة للتعريف بالشخصيات والأحداث، والتعليق على بعضها ليساعد القارئ على أن يعيش الأحداث ويتفاعل معها، فيغدو القارئ كأنه إزاء باحث في لغة ذلك العصر وثقافته وليس مترجماً فقط.
من الجدير بالذكر أن ترجمة هذا العمل يضاف إلى ترجمات صديقنا عودة الجيدة التي تضئ سجله الثقافي في حقل الترجمة عن الأدب الإنجليزي، وبخاصة  القصة القصيرة والمسرحية. فقد صدرت له أربع مجموعات قصصية، هي: «الطارة» 2005، و»الرعديد» 2010، ومن «أدب الطفل عند الشعوب: قصص من الأدب العالمي للأطفال» 2013، و»قناع الموت الأحمر» 2016. وفي المسرح ترجم مسرحيتين للكاتب البريطاني وليم شكسبير، هما: «مكبث» 2008، و»تاجر البندقية» 2015، كما ترجم مسرحيتين لكريستوفر مارلو هما: «يهودي مالطا» 2017،و»مذبحة باريس»، 2019.
وفي النهاية نقول: إن هذا العمل الذي قدمه الصديق عودة القضاة، وهو ترجمته «مذبحة باريس» لكريستوفر مارلو يبعث فينا المتعة، ويزودنا بالمعرفة الإنسانية، والأهم أنه ربما يدفعنا إلى النظر إلى المستقبل بأمل ومحبة، والتخلص من جلد الذات لما حدث في ماضينا من أحداث مؤلمة كان الاحتكام فيها إلى السيف لا العقل، والتخلص من الذكريات الأليمة التي رسختها تلك الأحداث، كما تخلصت الشعوب الأوروبية التي كان بينها ما صنع الحداد على الوجه الذي ظهر في» مذبحة باريس».