الدستور-فادي عسكر
تناولنا في الوثيقتين السابقتين دور المسيحيين الأردنيين البنّاء في مختلف جوانب الحياة، سواء الاجتماعية أو التجارية أو الثقافية، كما وثقته سجلات محكمة القدس الشرعية. أمّا اليوم، فنسلط الضوء على وثيقة قيّمة من بين عشرات الوثائق التي تجسّد واقع الانسجام الاجتماعي للمسيحيين الأردنيين ضمن مجتمعاتهم، وذلك من خلال نشاطهم التجاري المزدهر، الذي أسهم في تعميق أواصر العلاقات التاريخية بين الأردن وفلسطين، لا سيما بين مدينتي السلط ونابلس، كما توثقه الحجة موضوع هذا المقال، والمرفق نصها وصورتها.
تُعد مدينة السلط من أبرز النواحي التي شهدت نشاطًا تجاريًا واسعًا في مطلع القرن التاسع عشر، إذ كانت مركزًا مهمًا لتجّار نابلس والقدس والنّاصرة ودمشق، كما شكّلت سوقًا حيويًا لسكان جنوب سوريا، وبالتحديد من حوران وإربد والكرك ومعان، الأمر الذي جعل منها محل جذب لاستقطاب الوافدين إليها.
استقر الوافدون في القرى الكبيرة التي كانت تشهد نهضة عمرانية واقتصادية، وكان معظمهم من التجار، في حين اتجه البعض الآخر إلى القرى المهجورة أو الخرب، حيث لاقوا ترحيبًا من أصحابها للاستثمار فيها وزراعتها، مما شجّعهم على جلب أسرهم والاستقرار الدائم فيها. وقد أشارت المصادر إلى هؤلاء بالمتوطنين، وكان من أبرزهم تجّار وعائلات مسلمة ومسيحية، قدموا من القدس – وتحديدًا من محلة النصارى – ومن النّاصرة ونابلس، منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، واستقروا في السلط التي كانت تجمعهم بها علاقات قربى ونسب، فاندمجوا في نسيج مجتمعها المنسجم، وأصبح عدد منهم من كبار تجّارها ومالكي الأراضي فيها، كما توثقه العديد من المراجع والمصادر، ومنها:
- ما عبّر عنه جمال الدين القاسمي بقوله: « ... توافد عائلات من نابلس للسلط للتجارة والعمارة والولاية في الحكومة بحيث كانت تسمى نابلس الثانية أو الصغرى، وسبب تهافتهم عليها لذة مورد الثروة الذي ذاقوه ... «.
- ما تضمنته الوثيقة موضوع هذا المقال، والتي عكست طبيعة المعاملات التجارية الخارجية بين السلط ونابلس، مُجسِّدة عمق الروابط الاجتماعية وتشعّبها منذ القدم بين العائلات المسلمة والمسيحية في المدينتين، ومن بينها كما ورد في الوثيقة عائلات: قاقيش، وجاسر، والعنبتاوي، والبيروتي، وحمامة.
من نص الوثيقة:
«لما كان بذمة كل من فريح قاقيش ولد خلف بن قاقيش، وعيسى أسعد بن يوسف ولد قاقيش، وكلاهما من طائفة الروم من أهالي السلط، وعلي جاسر بن الحاج إبراهيم ولد جاسر من أهالي نابلس المتوطن الآن بالسلط أيضا إلى المكرمين صالح وسعيد ولدي المرحوم الحاج إبراهيم بن محمد العنبتاوي من أهالي نابلس مبلغا قدره (44400) قرش معاملة نابلس، سعر الليرة العثماني 119 قرشا، ... وهكذا باقي الأصناف من ذلك ما لهما بذمة فريح قاقيش المذكور (22,000) قرش، وبذمة عيسى قاقيش المرقوم (18000) قرش، والباقي وقدره (4400) قرش بذمة علي جاسر المذكور، وذلك بموجب إعلامين شرعيين صادرين من محكمة نابلس من نائبها السابق الشيخ نعمان أفندي الجوهري، ... فقد أقر كل من فريح وعيسى وعلي جاسر المذكورين واعترفوا وأشهدوا على أنفسهم طائعين مختارين أن بذمتهم المبلغ المشروح أعلاه كما هو مفصل... .
...وكذلك أقروا أنهم الثلاثة (فريح قاقيش وعيسى قاقيش وعلي جاسر) متكافلون متضامنون بعضهم البعض...، وذلك بكفالة السيد حسن أفندي فتح الله البيروتي وسليمان حمامة المقيمان بنابلس، وأنهم قائمون عند مضي السنة المرقومة، وقد حضروا وكفلهم على ذلك أيضا كفالة مالية فرح قاقيش ولد خلف بن قاقيش بطوعه ورضاه حسب إذنهم له بذلك، وتعهد بأداء ذلك إلى سعيد وشقيقه صالح المرقومين عند مضي السنة المذكورة... «.
إن الوثيقة التي تم تسليط الضوء عليها في هذا المقال، إلى جانب ما سبق نشره من وثائق في الأعداد السابقة لجريدة الدستور، تؤكد بما لا يدع مجالًا للشك الدور الحيوي الذي اضطلع به المسيحيون الأردنيون في بناء مجتمعاتهم، ومساهمتهم الفاعلة في مختلف مجالات الحياة، ولا سيما في المجال التجاري، الذي مثّل جسرًا للتواصل الاجتماعي والثقافي بين مدن وبلدات الأردن وفلسطين على وجه الخصوص، وبلاد الشام عمومًا.
وقد شكّلت مدينة السلط نموذجًا حيًّا لهذا التفاعل، حيث انصهرت العائلات الوافدة، المسيحية والمسلمة، في نسيج اجتماعي واحد قائم على مفاهيم التعايش والشراكة. إن هذه الوثائق، مجتمعة، لا تسجّل الوقائع فحسب، بل تُعد سجلًا تاريخيًا زاخرًا يعكس روح التآخي والاندماج التي ميّزت المجتمع الأردني منذ قرون، وتبقى شاهدًا حيًا على عمق العلاقة المتجذرة بين الإنسان والأرض والتاريخ في هذه المنطقة من العالم العربي.