بين التمسك والتخلي.. كيف يغير الفقد علاقاتنا بالأماكن والعادات؟
الغد-رشا كناكرية
يخالج الإنسان العديد من المشاعر المتنوعة، وتختلف ردات الفعل من شخص لآخر، وبين الحزن والفرح والغضب والراحة والألم قد يكون الفقد هو الأصعب بينهم، ففي مرحلة ما يخسر الإنسان شخصا عزيزا على قلبه، وهنا قد تبدأ المعاناة لدى البعض.
شعور الفقد من أصعب المشاعر التي يمر بها الإنسان ولكل شخص منا ردة فعل مختلفة، هنالك من يختار أن يتخلى عن كل شيء يذكره بالشخص الذي فقده، منهم علاء "اسم مستعار" الذي اختار أن يبيع منزل العائلة الذي يذكره كل ركن فيه بوالدته، فقرر تغيير مكان إقامته، كما امتنع عن تناول أكلته المفضلة "الملوخية"، إذ كانت الوجبة التي يتناولها عندما تلقى خبر وفاتها منذ عشر سنوات، وحتى اليوم لم يتمكن من وضعها في فمه، هربا من ذات الشعور الذي عاشه بذلك الوقت.
آخرون اختاروا التمسك بكل ما هو متعلق بهذا الشخص من أماكن، وأكلاته المفضلة، أو تصرفات أو كلمات معينة تذكرهم به لتبقى ذكراه بينهم، ومنهم تسنيم "اسم مستعار" التي اختارت أن تحتفظ بملابس والديها الذي رحل لتبقى رائحته في منزلها، وبالعكاز الذي كان يتكئ عليه على باب المنزل، وفي كل نهاية أسبوع تذهب للأماكن التي اعتادوا على زيارتها معه، لتعيد بذلك استرجاع ذكرياتهم معه.
ازدواجية في المشاعر يعيشها الفرد عندما يمر بمشاعر الفقد، وبين التمسك والتخلي يبقى السؤال كيف يتعامل الإنسان مع شعور الفقد دون أن يتأذى نفسيا؟
من جانبها تبين الاختصاصية النفسية عصمت حوسو، أنه عندما يفقد الإنسان شخصا عزيزا سواء بالموت أو بالتخلي يشعر بحسرة الفقد والحداد، موضحة أنه حتى نتقبل الفقد يجب أن نمر بجميع مراحله الخمسة وبطريقة صحيحة.
وتشير حوسو إلى أنه يجب أن يدرك الفرد هذه المراحل جيدا ليعلم كيف يتعامل معها، ولكي نخفف الأذى النفسي الذي يتعرض له الفاقد، لأن الموت حقيقة حتمية. وتذكر حوسو أن المرحلة الأولى هي الإنكار والرغبة في العزلة، وفي هذه المرحلة لا يستوعب عقل الإنسان الحدث ويرغب أن يبقى وحده، ولذلك يجب تركه على راحته وفي مساحته مع التواجد حوله؛ لأنه يحتاج وقتا لاستيعاب ما حدث.
وبعدها تأتي مرحلة الغضب، وهذه المرحلة الأخطر بحسب حوسو، والتي تحدث بها مشاكل مع الأسرة والناس حوله، مبينة أنه عندما يستوعب الذي حدث يبدأ بغضب شديد من فكرة الخسارة والفقد، وهنا أيضا يجب استيعابه وإعطاؤه مساحة ليغضب، لأن الإنسان متألم. وبعدها يمر بمرحلة المساومة، وهي مرحلة "لو، ويا ليتني فعلت ذلك".
كما يدخل الإنسان في مرحلة الاكتئاب، التي يتخللها حزن وبكاء وندم شديد، والعودة للماضي واسترجاع الذكريات، وهنا تنوه إلى أنه إما أن يكون الاكتئاب واضحا وظاهرا والناس تراه، وعليه يحتاج إلى تدخل طبي ومساعدة مختص.
وأحيانا يكون الاكتئاب كامنا، بمعنى أن الذين حوله يعتقدون أنه بخير ومستمر في حياته، ولكنه من الداخل مكتئب ولا أحد يشعر به، وفق حوسو. وتقول حوسو: إذا خرج الفرد من مرحلة الاكتئاب بسلام تأتي المرحلة الأخيرة وهي مرحلة التقبل، موضحة أنه لا يكون جاهزا تماما للتقبل، ولكن الفكرة تحولت من إنكار ورفض إلى تقبل بأن هذا الشخص قد ذهب.
وهنا يبدأ الإنسان يفكر ويُؤقلم حياته على عدم وجود هذا الشخص ويبدأ يعتمد على نفسه ويرى بدائل للأمور التي كان يفعلها هذا الشخص، ويبدأ يضع خط حياة جديد ليصل لمرحلة التقبل، مؤكدة بذلك أنه يجب الوعي لهذه المراحل ليخرج منها الفرد سريعا.
وتبين حوسو أن ردات الفعل تختلف بحسب درجة القرب والتعلق وطريقة الموت، مشيرة إلى أن التماسك بالأمور التي تذكرنا بالشخص المفقود في أول مرحلة طبيعي، لكنه يصبح أمرا غير صحي إذا استمر، وجَمَّد حياته ومشاعره هناك.
وتفسر حوسو أن هنالك العديد من الناس يعتقدون أنهم يعتادون، والخرافة بأن مرور الوقت يعالج وهذا أمر خاطئ، لأن الوقت لا يعالج الألم، إلا إذا قررنا أن نعالج أنفسنا، وعندما يبقى الإنسان معلقا بالماضي يؤذي نفسه ويعيقها عن التطور والتعافي. وتضيف، كما يعيقه هذا التمسك بأنه يعود ويكمل حياته سواء بعلاقة جديدة أو بزواج أو بالعمل وأي شيء آخر، مؤكدة بذلك أن التمسك بالأمور خاطئ، وتقول: "أولها صحي لأن العقل البشري يحتاج وقتا لاستيعاب حجم الخسارة، ولكن بمرحلة محددة يجب أن نعلم متى نوقفه".
وتقول حوسو: "في التخلي تجلٍّ، بالتخلي عن شيء نتمسك به وليس لدينا خيار في فقدانه، هنا نصل لمرحلة التجلي والراحة والتعافي تماما". وتفسر حوسو أن الأماكن التي كانت لهم ذكريات فيها سواء "مطاعم، بلاد، وغيرها"، فعادة أول تعرض لها بعد الفقد يكون جدا صعبا، ولكن إذا كان للإنسان وعي ذاتي بهذا الأمر من شبكة الدعم، يصبح الأمر أخف، ثم يمر من الأماكن بسلام.
وهذا لا يعني أنه لا يتذكر، بحسب حوسو، فالحياة مليئة بالمثيرات تجعل الإنسان يتذكر، ولكن الفرق أنه لا يشعر بنفس المشاعر كما أول مرة، إذ تصبح المشاعر أهدأ مثل الحنين والاشتياق، لكن لا تكون بحدة وشدة وتكرار مشاعر الحزن والأسى والحسرة والغضب.
وتبين حوسو أننا للأسف نعلم أن الموت حق وحقيقة واليقين الوحيد في الحياة، ولكن لا نتربى أو نتعلم على تقبله ونعتبره شيئا بعيدا لن يصيبنا أو يصيب من نحب، مؤكدة بذلك أنه يجب أن يكون من أسس التربية وأنه أمر طبيعي يصيب الجميع، لكي لا يحدث تعلق مرضي وانهيار للفاقد بعد المفقود بغض النظر عن نوع العلاقة معه.
وحسب خبرتها، تؤكد حوسو أنه يجب أن نربي أبناءنا على أن الموت حقيقة وحق، وألا نستبعده، بل نكون حاضرين لهذه الحقيقة.
وتضيف: إنه يجب أن يعي الإنسان أن المراحل التي تمر بها النفس البشرية خلال الفقد مراحل طبيعية، وسرعة الخروج من مرحلة لأخرى أو التوقف عند مرحلة معينة يعتمد على الشخص وقوته وأدواته، والأهم شبكة الدعم.
وتؤكد حوسو أنه عندما يعلم الإنسان هذه المراحل سيتقبلها ويخرج منها مرحلة مرحلة، حتى يصل لمرحلة التعافي والشفاء التام، ألا وهي مرحلة التقبل ثم التكيف مع عدم وجود المفقود.
وبدورها، تبين اختصاصية الإرشاد النفسي والأسري والعلاقاتي رشا التميمي أن مشاعر الفقد تختلف عن غيرها، موضحة أنها قد ترتبط بمشاعر أخرى؛ فقد ترتبط بالاشتياق، وهو أمر يرتبط كثيرا بالشخص المتوفى.
وتشير التميمي إلى أنه في بعض الأحيان قد يرتبط الفقد بشعور الذنب، وبذلك يصبح مؤثرا سلبيا على القيمة الذاتية للفرد، كما قد يرتبط بعلاقة غير صحية، وعندها لا ينبغي التمسك بالأمور التي تذكرنا به.
وتضيف التميمي أنه ينبغي ألا يتخلى الفرد عن ذكرياته، بل يحاول أن يتعايش معها، أو يحاول صنع ذكريات أخرى مع شخص آخر وذلك في حالات الانفصال.
أما في حالة الوفاة، فطريقة التعامل مع الذكريات من ناحية نفسية تختلف، وتتم بممارسة العديد من الطقوس بشكل يعزز وجود ذكرى الفرد بشكل إيجابي في الحياة، دون أن يفقد عيشه للحاضر.
وتبين التميمي أنه لا توجد طريقة مثلى للتعامل مع الفقد، بل الأهم ألا يتحول لاكتئاب، وألا يعيقنا عن إنتاجيتنا، وإذا كان الشخص ذا ذكرى جميلة معنا كالاب أو الزوج مثلا، فمن الجميل استذكار بعض الأنشطة والأماكن وارتيادها كل فترة كنوع من الارتباط الروحي معه.