القدس العربي- عزيز الحدادي
«ملحمة الكوميديا الفنية جعلت من الفيلم عملا فنيا.. إنها جدل بين الصورة والعمق، رسم للحقيقة في الواقع «
بازان
من المحتمل أن يكون الانتقال من الفيلم كفن إلى الفيلم كسيناريو، قد دفع بالسينما إلى الانقلاب على جدل الصورة والعمق، هكذا أصبحت السينما عديمة الاهتمام بمجراها، وكأنها مجرد نهر يحفر من أجل توجيه مياهه إلى البحر. لقد انتهى ذلك العهد الذي كان يمنح لكل مخرج سينمائي الانتماء إلى عالم الفن السابع، بل إن ما يقوم به ليس سوى تعرية استيطيقية، وبما أنه من غير المعقول أن تهرب السينما من قدرها الفني، دون أن تستقل عن الرواية والمسرح. من الممكن أن تكتب الرواية مباشرة في الفيلم، ولذلك تصبح السينما وحدها تتحمل الرأسمال الرمزي لتلك المواضيع التي تعالجها، أو تصويرها سينمائيا، فنقل مسرحية هامليت إلى الشاشة، قد تساهم في إضافة عدد كبير من المعجبين بشكسبير، كما أن فيلم «يوميات راهب في البادية»، جعلت عدد قراء الكاتب بيرنانوس يتضاعف، ولعل هذا ما قاد إلى نهضة الفن الشعبي، واقتحامه جدار الجمهور.
بيد أن إعجاب النقاد بفيلم «يوميات راهب البادية» يشبه إعجاب الجمهور، لأنه يتوجه مباشرة نحو العاطفة الدينية، دون أن يهتم بتأسيس استيطيقا الذات، فما كان يهم المخرج السينمائي هو هذا الإحساس المنفعل للروح، الذي يتسلل في الوعي من أجل التنقيب عن الأعماق الخفية للذهن الثقافي، مادام أن الفن بدأ يتراجع في المجتمع، ولذلك يتعين على السينما، مدعمة بالنقد، استرجاع أمجاد الفن كما كان في عصره الذهبي.
النقد ما هو إلا سؤال فلسفي ينتمي إلى الفكر الجدلي الذي يميز بين الشيء ونقيضه، وبالأحرى بين الخطأ والصواب، ومن الأفضل أن يكون الناقد السينمائي مخطئا مع إخلاصه للحقيقة، من أن يكون مصيبا مع زيف الحقيقة، بمعنى أن يشهد شهادة الزور، ولذلك فإن خيانة الناقد تكمن في الابتعاد عن حقيقة الفن، وسرده لحكاية الفيلم، وتعظيم قدرته على الانتشار بين الجمهور. جاء في كتاب «المثقفون المزيفون»، كيف يصنع الإعلام خبراء في الكذب ويجعلهم يسيطرون على المجال العام، ويوجهون الرأي العام نحو قناعات أيديولوجية السلطة، ويتقاضون أجورا خيالية مقابل عملهم الشنيع. أمل السينما لا يوجد في يد هؤلاء الذين ينشرون اليأس الفني، أبواق السلطة، الذين اغتالوا المثقف العضوي الملتزم لهموم عصره، والناقد للهيمنة الثقافية والسيطرة السياسية، باعتبارهما يستعملان السينما كأداة لنشر السيطرة والقمع، ونبذ الرغبة في التغيير. ولذلك فإن السلطة تخشى الناقد العضوي الذي يهدم سينما الأوهام، السينما دون سينما، وتحاول أن تشتري الناقد المزيف لكي يدعم توجهاتها. ولعل ما نلاحظه في تلك المهرجانات التي تمولها السلطة بمبالغ خيالية، هو حضور أشباح السينما من مخرجين ونقاد، وغياب المثقف الحقيقي، الذي يعشق أن يموت إلى جوار الحقيقة، ويسعى إلى تغيير التاريخ بالفن والفكر، حيث تحولت هذه المهرجانات النمطية إلى بورصة للتفاهة، وقد لا تخدم السلطة أحيانا فيتم إغلاقها.
ينبغي على الناقد العضوي اكتشاف تلك التناقضات الكامنة في مجتمع السينما. باعتباره انعكاسا للمجتمع الرأسمالي الذي حول الإنسان إلى سلعة تنتج نفسها وتستهلكها في الآن نفسه، هكذا بات من اللازم الاعتراف بأن السينما تحولت إلى عبد لرأس المال، وخادمة مطيعة للسلطة القمعية، فقراؤها بواسطة الجدل الهيغلي، كما جاء في الاستيطيقا، يؤدي إلى الإعلان عن موت سينما الفن، أو ترك مكانها لسينما المال والتقنية الساذجة، فأغلب المسيطرين على فضاء السينما سذج وتافهون لم يقرأوا، ولو كتابا كاملا في السنة، سماسرة يجمعون المال، فالسينما ليست وجودا يستمتع به الجمهور ويربح من ورائه صناع الثروة، بل هي الفن السابع، الذي لا يضاهيه سوى فلسفة الوجود، التي لا يمكن شرحها، من الممكن أن تعيشها عبر القراءة واليومي فكلاهما يسعيان إلى صنع تاريخ الإنسانية، من خلال المقاومة والنضال، إنهما يمنحان للإنسان الكرامة ويمتعانه بالحرية، السينما فلسفة الفن، والفن هو الإنسان بما هو إنسان في تجليات الوجودية.
من أجل أن تمسي السينما قوة تحررية في عمق التاريخ، لا بد أن تعلن عن نهاية التاريخ المزيف، وبداية التاريخ القاضي، الذي يحكم بالعدالة والحرية، كما قال ماركس: «نحن مكبلون بالأصفاد، محطمون خائفون مسلسلون إلى الأبد بصخرة الوجود، فماذا ننتظر؟».
بما أن السينما في المغرب لم تنزح عن الذاكرة، ثم تتوجه نحو التاريخ، فإنها لن تصبح نظرية فنية ونقدية للاستبداد السياسي والعتمة الاجتماعية، ولا يمكن أن تتحول إلى أداة للتحرر، ولعلها كانت كذلك في أمريكا اللاتينية، وأوروبا، لأنه إذا كانت الفلسفة النظرية النقدية، التي ظلت في يد الطبقة المتوسطة، من أجل المقاومة، فإن السينما كفن شعبي يمكن بواسطتها نشر الوعي الذاتي والوعي الاستيطيقي، هكذا ستصبح صورة الحرية مشرقة في الشاشة، وكأنها شمس الصباح.
ثمة برهان مطلق على أن الناقد السينمائي التقليدي، لا يمكن إلا أن يمجد التقني الذي ينتج أفلاما تافهة، فهؤلاء لا يستحقون اسم الناقد، بل مجرد عامل بالقلم مقابل مبلغ زهيد من المال، ويقول بصوته المزعج: السينما من أجل السينما، والفلسفة من أجل الفلسفة. قد يكون هذا الناقد حاصل على شهادة أكاديمية عليا ومزورة. ولذلك فإن صاحب كتاب «نظام التفاهة» يسميهم المثقفين الصغار أصحاب الشواهد، عمالا بالنظر، ما يهمهم هو التقدم الأكاديمي لا التغيير الاجتماعي، ولا نقد الهيمنة والسيطرة، أو هدم الاغتراب الذي تروج له تلك السينما الممجدة للسلطة:» هذا الانحطاط المتنامي في الوعي».
السينما ليست فنا فارغا من المعنى، أو جسدا معوقا غريبا عن تناقضات المجتمع، تشبه تلك الأشعار الأسطورية التي روج لها هوميروس في الأوديسة والإلياذة، خاصة عندما يصور مضاجعة الآلهة، وكأنه كان حاضرا، إنها بندقية للتحرير واكتشاف روح العالم الجديد، بدلا من الغرق في مستنقع الماضي الذي يحرم الإنسان من نوعه، ولذلك يجب: «ضرورة التفكير في التقدم في مرحلة الانهيار» كما قال أدرنو. وعلى الرغم من أن السينما التي تهدم الظلام من أجل بناء التنوير تراجعت كثيرا في هذه السنوات، لأسباب عديدة وأهمها تسلل تجار الأوهام إلى فضائها.
لا يمكن أن نفصل السينما عن الفن، والفن عن الفكر، بيد أن ضعف الفكر يكمن في ضعف الجامعات والمعاهد العليا، التي تحولت إلى بنايات فارغة من الحرية والفكر، تفصل بين الإنسان وأهدافه، فالأمل يأتي من الذين لا أمل لهم، كما قال هربرت ماركوز:» أولئك الذين يمارسون مناهضة لما نصفه بالحقيقة المطلقة» .
مهما كانت المثل الكبرى للحضارة- العقل والمساواة والحرية، بعيدة المنال عن السينما، وقريبة من الفلسفة، إلا أنها قد تتحقق عندما يمتزج الفن بالفكر في مشروع سينمائي جديد وهادف، ويتم طرد أشباه النقاد وتجار التقنية، كما فعل سقراط مع هوميروس وجماعته، وبهذا المعنى يكون النقد السقراطي لشعر المحاكاة، نافعا لهذا الزمن الذي تحولت فيه مهنة النقد السينمائي إلى مهنة من لا مهنة له، وأيضا الإخراج.