عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    02-Dec-2019

الانتخابات التونسية.. كيف هزم الإعلام الرقمي وسائل الإعلام التقليدية؟

 سليمان شعباني

محرر
 
الجزيرة - لم يكن من السهل على منظومة الإعلام التقليدي في تونس تقبّل الهزيمة التي مُنيت بها إثر الانتخابات التشريعية والرئاسية الأخيرة أمام منصات الإعلام الجديد، حيث تعيش منذ ذلك الوقت على وقع الصدمة جراء ما حصل، والمقصود هنا بمنظومة الإعلام التقليدي هو كل أشكال الصحافة المكتوبة والمرئية والمسموعة، أما منصات الإعلام الجديد فهي المواقع الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي.
 
كان تاريخا السادس من أكتوبر/تشرين الأول والثالث عشر من الشهر نفسه من سنة 2019 محطات غير عادية للنخب التقليدية في تونس وعلى رأسها النخب الإعلامية، حيث تمكّنت قوى أخرى من خارج هذه المنظومات الكلاسيكية وبأدوات غير تقليدية من اقتلاع أماكن لها تحت شمس السلطة في البلاد، بل تمكّنت من التأثير بشكل مهم في هندسة المشهد البرلماني وإيصال رئيس الجمهورية الجديد الأستاذ قيس سعيد إلى قصر قرطاج بنسبة تاريخية تجاوزت السبعين في المئة من جملة الأصوات.
 
لقد دأب الإعلام التقليدي بأصنافه المختلفة، في السنوات الأخيرة، على المساهمة بقوة في تحديد أركان المشهد السياسي، عبر تصعيد المتفقين معه من مكونات الطبقة السياسية وإسقاط مَن هم مختلفون عنه، فقد ساهم هذا النوع من الإعلام منذ الثورة في تشكيل وعي عام شعبي ساهم بشكل كبير في التأثير على سلوك الناخبين خلال الانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 2014.
 
استمد الإعلام التقليدي قوّته من مراهنة بعض اللوبيات السياسية والاقتصادية المحلية والإقليمية عليه حتى يكون همزة الوصل بينها وبين المجتمع في تبليغ رسائلها وحتى يكون الأداة التي من خلالها تُنفّذ مشاريعه في البلاد. كان محور النقاش في تونس إثر الثورة اجتماعيا سياسيا بالأساس، الهدف منه تحقيق الحرية و الكرامة وكانت هذه الأرضية جامعة لفئة واسعة من المجتمع،الى أن ظهر العامل الثقافي كعنصر للتفرقة وضرب الوحدة المجتمعية و قد انطلقت أول أزمة مجتمعية في البلاد اثر الثورة عبر قناة تلفزية من خلال بث قناة نسمة لفيلم بيرسيبوليس المسيء للذات الإلاهية و للمسلمين و الذي كان شرارة اطلاق التفرقة داخل المجتمع بين العلمانيين و الإسلاميين والذي ساهم في تكون مناخ تسبب لاحقا في انتشار ظاهرة الغلو و التطرف بين أوساط الشباب.
 
عملت قوى الثورة، منذ سنة 2011، على محاولة إيجاد بدائل للمنصات الإعلامية المنتصبة في البلاد في محاولة منها لتحقيق التوازن في هذه الساحة، وتوجّهت للإعلام الإلكتروني ومنصات التواصل الاجتماعي ثم إلى الإنتاج البصري والسمعي، إلا أنها عجزت عن ذلك، بل نجحت هذه الإمبراطوريات الإعلامية أحيانا في احتواء بعض القوى الثورية وتطويعها لإبراز قوة الإعلام التقليدي وقدرته على الإمساك بتلابيب المشهد.
 
تواصل سيطرة الإعلام التقليدي على المشهد وإمساكه بتلابيبه لمدة أكثر من 6 سنوات سعى خلالها إلى صنع رأي عام حول قضايا معينة وتزييف الوعي الجمعي للمجتمع التونسي في قضايا أخرى. نجحت منظومة الإعلام التقليدي خلال انتخابات 2014 في توجيه الرأي العام إلى حيث تريد، فكانت النتائج التشريعية والرئاسية كما أرادت. خلال الانتخابات التشريعية والرئاسية الأخيرة اقتفت المؤسسات الإعلامية التقليدية أثرها السابق، فكان لها دور متقدم في دعم مرشحين بعينهم خلال انتخابات 2019 التشريعية والرئاسية، وهو ما أكّده تقرير الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري.
 
لم ينجح الإعلام التقليدي هذه المرة، وكان للأدوات الإعلامية الجديدة رأي آخر، ورغم أن نجاح هذه الأخيرة كان جليا فإن المؤسسات المهزومة لم تقبل النتائج بعد، وهو ما أكّده محمد القوماني الصحفي والنائب في البرلمان الجديد عن حزب حركة النهضة حيث يقول: "لم تعترف إلى حدّ الآن بعض المنصّات الإعلامية بهزيمتها النكراء، حين خسر مرشحوها في رئاسية وتشريعية 2019، على غرار قناة الحوار التونسي التي دعمت الزبيدي أولا ثم القروي لاحقا، وقناة التاسعة التي لم تُخفِ دعمها للشاهد، ولا تزال تحتفظ ببعض معلّقيها ومنشطيها الفاشلين، ويستضيف بعض الشخصيات الفكرية والسياسية التي تآكل خطابها وفقدت مصداقيتها وبريقها".
   
فشل مردّه أزمات ذاتية
الواضح أن هذه المؤسسات واصلت الهرب إلى الأمام حيث لم تستوعب الدرس بعد، ولم تنطلق في البحث عن أسباب هزيمتها.
 
في سؤالنا عن أسباب فشل المؤسسات التقليدية يجيبنا الإعلامي والباحث عبد السلام الزبيدي بالتالي:
 
"لنتّفق في البداية على أنّنا زَمَنا اعتبره فلاسفة ومفكّرون على غرار ميشال سار ويبار ليفي ولوسيانو فلوريدي وقبلهم مارشال مكلوهان ثورة شبيهة بثو�'رتي�' اختراع الكتابة واختراع الطباعة مع غوتنبرغ. هذه الثورة المعلوماتية تُغيِّر حياتنا في كلّ أوجهها، ومن بين المجالات التي تخضع للتغيُّرِ في الوقت الذي تتوهّم أنّها تُغيِّر من حولها هي وسائط الإعلام التقليدية بأشكالها وأنماطها المختلفة.
 
ووسائل الإعلام التقليدية في تونس جزء من هذا العالم الاتصالي المتأثّر بالتسونامي الرقمي ومنصاته الافتراضية التي افتّكت جزءا من سلطة الإعلام التقليدي، وتجاوزَت�'ه لتغدو محدّدة بشكل كبير الاتجاهات السلوكية للأفراد ولقراراتهم ذات الصبغة السياسية، ومن ذلك طرق التنظّم وأساليب التأثير في القضايا والمحطات السياسية على غرار الانتخابات والحراك المواطني الاحتجاجي.
 
ومؤسسات الإعلام التقليدي التونسية تعيش أزمة مضاعفة، الأولى ذات صلة بالتحوّل الرقمي بما هو ثورة اتصالية قَدرُ كل المؤسسات أن تُغيِّر مقارباتها وأساليب عملها حتى لا يكون مصيرها ليس تقلّص التأثير فقط، بل الاندثار والاضمحلال. أمّا الأزمة الثانية، فهي أزمة هيكلية ووظيفية، حيث أصبح عدد منها مجرّد واجهة لمجموعات الضغط السياسي والمالي والجهوي حينا، وأدوات لتسطيح الوعي والإثارة حينا آخر. وكانت النتيجة تقلّص تأثيرها في تشكيل الرأي العام، بل غدا الرأي العام المواطني والمهني في تناقض معها".
 
وعن المطلوب من مؤسسات الإعلام التقليدي حتى تسترجع مكانتها كمنصات مؤثرة في تشكيل الرأي العام في تونس يواصل الأستاذ الزبيدي بأن "طريق الإصلاح متعدّد الأوجه، أوّله مؤسساتي وذلك بتطوير الهيئة المستقلة للاتصال السمعي البصري من نجاعتها وفعاليتها كمؤسسة تعديلية دستورية مشرفة على القنوات الإذاعية والتلفزيونية، وإنشاء مجلس أعلى للصحافة المكتوبة والإلكترونية يضطلع المهنيون بمهمة التعديل الذاتي لهذه المؤسسات.
 
المسلك الثاني للإصلاح يتمثّل في الالتزام بقواعد المهنة وأخلاقياتها وإتاحة الفرصة للإعلاميين العاملين في المؤسسات بضبط الخط التحريري لمؤسساتهم، وبذلك يسهمون في ترشيد المنتج الإعلامي وضمان مصداقية أكبر مع المستهدفين. أمّا ثالث الدروب فهو قانوني/سياسي يتمثّل في فتح ورشة كبرى لإصلاح الإعلام بمراجعة الأُطر القانونية المنظمة له".
 
جيل جديد حسم المعركة
 
تشير الأرقام المتعلقة بنسب المشاركة في الانتخابات إلى بروز معطى جديد وهو المشاركة النوعية للشباب وترجيح الكفة لصالح مرشحي الثورة في التشريعية والرئاسية، حيث بلغت، في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية، نسبة الأصوات التي تحصل عليها الأستاذ قيس سعيد من جملة أصوات الذين صوتوا من الشريحة العمرية (18-25 سنة) في حدود 90.5% في حين تحصل منافسه نبيل القروي على 9.5% فقط من جملة أصوات هذه الفئة، وذلك حسب شركة سبر الآراء التونسية "سيغما كونساي".
 
يرجع ذلك أولا الى طبيعة المنافس نبيل القروي الذي لم يلامس خطابه قضايا الفئة الشبابية، إضافة إلى ما تعلّق به من شبهات فساد، فضلا عن اعتماد قناته في الحملة الانتخابية معرجا على كون فئة الشباب وخاصة الطلاب منهم لم يعد ما يربطهم بالتلفاز في ظل الثورة الرقمية التي يعرفها العالم. من الأسباب الأخرى التي جعلت من الشباب يصوّت للأستاذ قيس سعيد اعتماد فريق حملته على أدوات اتصالية جديدة تتمثّل في التواصل المباشر مع الشباب وإشراكهم في مشروعه الانتخابي عبر مناقشته معهم في مجموعات داخلية مفتوحة من خلال موقع "فيسبوك"، ثم التعويل عليهم في حملته الانتخابية أو ما سماها بالحملات التفسيرية. لقد عوّل فريق حملة الاستاذ قيس سعيد على الإعلام الجديد، وخاصة على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، لإقناع شريحة الشباب معتمدا في ذلك على تقنيات متطورة في التوجه المباشر لفئة الشباب بخطاب موجه ومعدل حسب اهتماماتهم وظروف تنشئتهم.
 
الإعلام الجديد محرك للجماهير
 
تلعب منصات الإعلام الجديد دورا متقدما في تحريك الجماهير نحو خيارات تخدم أهداف ثورة الحرية والكرامة، حيث برز ذلك كما أسلفنا خلال الانتخابات التشريعية والرئاسية الأخيرة، وكذلك من خلال مساهمتها خلال الأسابيع الأخيرة في تحريك الشباب نحو التطوع في حملات النظافة وحملات المقاطعة في إطار ما سُمّي بحالة الوعي وما أطلق عليها رئيس الجمهورية بالثورة الثقافية. هذا الدور المتقدم جعل من مؤسسات الإعلام الجديد وجهة متجددة لفئة واسعة من التونسيين وخاصة الشباب منهم.
 
إن إصرار مؤسسات الإعلام التقليدي في تونس على السير في الاتجاه نفسه مؤذن بخرابها ونهايتها، كما يُبشّر بذلك العديد من المختصين، حيث تُبيّن الأرقام أن العديد من المؤسسات الإعلامية وخاصة منها الصحافة المكتوبة تعيش أزمات خانقة، كما تعرف الساحة الإعلامية تواتر توقف مؤسسات الإعلام السمعي عن البث بسبب أزمات مالية بالأساس، ناهيك بالأزمات التي تعيشها القنوات التلفزية بين الحين والآخر، ولن تنجو هذه المؤسسات من هذا القدر المفزع بالنسبة لها إلا بمجاراة نسق التحول الرقمي الحاصل والتغيير في أدوات عملها ومفردات الخطاب التي تعتمدها حتى تكون قادرة على استقطاب الفئة الأكثر تأثيرا في المجتمع ألا وهي الفئة الشبابية. من جهة أخرى، حالة اللا تنظم التي تعرفها فضاءات الإعلام الجديد وما يرافقها أحيانا من انتشار للإشاعة والخطابات العنيفة من شأنها أن تتسبب في انتشار ظواهر اجتماعية قد تكون خطيرة على الشباب وخاصة على الأجيال القادمة.