عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    16-Aug-2019

أديب في جبّة إعلامي عابر للفضائيات ومبشر ببصيص الثقافة! - الطاهر الطويل

 

القدس العربي - تبدو الثقافة في عُرف القائمين على التلفزيونات العربية بمثابة “سقْط مَتاع”، إذ توجد في آخر سُلّم الاهتمامات (إن وُجدتْ) بعد السياسة والرياضة والترفيه. والمتأمّل في الشبكة البرامجية يُفاجَأ بخُلُوّها من فقرات ثقافية ذات قيمة وجودة عالية، عدا برنامجا أو برنامجين يتيمين يُبثّان، عبر هذه القناة أو تلك، في أوقات “ميتة” بتعبير الإعلاميين.
التبرير الذي يُقدَّم لهذه الحالة أنّ الثقافة لا تستهوي المُشاهدين العرب، مقارنة مع الرياضة أو الترفيه، وأنّ تتبّع البرامج الثقافية يقتصر على نخبة ضئيلة جدا. وبالتالي، لا يمكن المجازفة ببثها في أوقات الذروة التي تستقطب أصحاب الإعلانات التلفزيونية.
غير أنه لا يمكن الارتكان إلى مثل هذا المبرر واعتباره حجّة لإقصاء الثقافة، لأن التلفزيونات العربية، سيما الحكومية، مطالبة بتجسيد “الخدمة العمومية” من خلال التثقيف. ذلك واجبُها إزاء المواطن، يُحتّمه أولاً كونُها مؤسسات عمومية وإحدى واجهات حضارة البلد وهويته، وثانيا كونها تُموَّل بواسطة المال العمومي الذي تشكّل ضرائب المواطنين جزءًا منه.
البعض يفسّر إقصاء الثقافة أو حصرها في دوائر ضيقة جدا ضمن خارطة البرامج التلفزيونية العربية، بوجود نوع من التوجّس من كل ما هو ثقافي، لأنه مُرادفٌ لتنمية الوعي وتطوير الذائقة الجمالية وتشجيع الحس النقدي، وهي أهداف لا تندرج ضمن رؤى الكثير من المتحكمين في زمام الأمور بالبلدان العربية، لأن الإعلام ـ في عرفهم ـ أداة لتكريس الأوضاع واستبلاد الذهنيات وإفساد الذوق العام. أما الأدوار التنويرية فترتعد منها فرائص أولئك المسؤولين، ما دامت تقود المواطن إلى الوعي بحقوقه وواجباته، وإلى فهم طبيعة السلطة الحاكمة والاختلالات الموجودة في دواليب المؤسسات.
 
لغة الحوار
 
رغم هذه الصورة الداكنة، يظهر بين الفينة والأخرى بصيص أمل، يُغذّيه مثقفون وإعلاميون مقدّرون ثقلَ المسؤولية الملقاة على عاتقهم. وتنطبق على جهودهم المقولة الفقهية المعروفة “ما لا يُدرَك كله لا يُترك جُلّه”، إذ يحاولون زرع نبتة الثقافة في الفضاء التلفزيوني العربي، وإنْ كانوا يعلمون باستعصاء تربته على الاستنبات، بالنظر للمُعيقات سالفة الذكر.
من بين هؤلاء: الأديب والإعلامي ياسين عدنان الذي اشتُهر بإعداد وتقديم برنامج “مشارف” على القناة الأولى المغربية، قبل أن ينتقل إلى تقديم برنامج “بيت ياسين” على فضائية “الغد” المصرية الخاصة. وخلال هذا المسار كله الذي ناهز خمس عشرة سنة، استطاع الإعلامي المذكور أن ينفتح على العديد من الأسماء الثقافية المغربية والعربية، وأن يُقارب الكثير من الإشكالات المرتبطة بالأدب والفكر والفن بمهنية واقتدار عاليين.
مما يُحسَب لبرنامج “مشارف” أنه ساهم في التعريف بخرائط الإبداع المغربي، من خلال مُحاورة مختلف الأجيال والتجارب، فضلا عن انفتاحه على الأفق العربي. وخلال جلساته الحوارية، يبدو ياسين عدنان حريصًا على اعتماد لغة ثالثة تمزج بين العربية الفصحى والعامّية المغربية، بتلقائية ومن غير تكلّف، فتبدو الحلقات بمثابة جلسة سمر حميمية، أكثر من كونها خاضعة لصرامة الحديث الصحافي وجديته المبالغ فيها أحيانا.
ومن ثم، تضاربت الآراء حول اللغة المستعملة من قبل ياسين، فهناك من يرى في المزج بين الفصحى والعامية إخلالاً بعمق المعنى وتماسك الخطاب، ورهانًا على “شعبوية” غير مُجدية في هذا النوع من البرامج. وفي المقابل، فإن مُؤيّدي هذا النهج يعتبرونه استحضارًا لطبيعة المتلقّي العام للتلفزيون المغربي، ومحاولة شدّ انتباهه واستدراجه لمتابعة البرنامج.
والحال أن ياسين عدنان لا تعوزه لغة الحديث ولباقته وسلاسته، وهو الأديب المتمكن من لغة الضاد شعرا ورواية ومقالة، فضلا عن خبرته الطويلة في إدارة النقاشات الفكرية والأدبية والإعلامية خلال العديد من اللقاءات الخاصة والعامة في أكثر من بلد عربي. إنه يمتلك أسلوبا طريفا وجاذبية قوية تستهوي المتلقي لمتابعة حديثه. وتلك موهبة ربّانية لا تُتَعلَّم في المدارس والمعاهد ولا في الدورات التدريبية المتخصصة.
 
حميمية المبدعين
 
انبجست موهبة ياسين عدنان أكثر في برنامجه الثقافي الجديد “بيت ياسين” المبثوث على قناة “الغد”، ففي كل حلقة من حلقاته يكشف لنا عن جوانب خفية في سيرة ضيوفه وشخصياتهم.
حين استضاف قاسم حداد، اكتشف المشاهدون أن الاسم الحقيقي لهذا الشاعر البحريني هو “جاسم محمد حمد حداد”، اسم مسجل في بطاقة الهوية وجواز السفر، لكنه اختار “قاسم حداد” إفصاحا عن هويته الإبداعية، حيث كان معجبا بالأديب الجزائري “مالك حداد”. ولكنه بقي يفضل اسم “جاسم” لمخاطبته في الحياة اليومية، تجسيدًا للعفوية والحميمية. أمّا لقب “الحداد” فيشير إلى مهنة والده، حيث عمل قاسم إلى جانبه في مهنة الحدادة، مثلما اشتغل في مهن يدوية مختلفة.
وفي حلقة أخرى، استطاع ياسين أن يبرز للمشاهدين وجه المثقف لدى الفنان التونسي لطفي بوشناق، من حيث امتلاكه لثقافة عميقة، وروح إنسانية عالية تتخطى الحدود والجغرافيات والجنسيات الضيقة، وذلك وفق قاعدة أساسية مفادها أن الفن يوحد الشعوب. الطريف أن تلك الحلقة أبرزت أيضا جذور اللقب العائلي لبوشناق والتي تعود إلى “البوسنة”، حيث كان أجداده الأوائل منذ أكثر من ثلاثة قرون.
ومن بين أجمل الحلقات الأخرى أيضا، استضافة ياسين عدنان للروائي الجزائري واسيني الأعرج وزوجته الشاعرة زينب الأعوج، حيث لامس الحديث أبعاد الانتقال من مكان لآخر، هو الجزائر وفرنسا، وكذلك دلالات المراوحة بين اللغتين والثقافتين العربية والفرنسية. وبنوع من العرفان، استحضر الضيفان أسماء مجموعة من المثقفين الذين احتضنوهما كجمال الدين بن الشيخ ورشيد بوجدرة ومحمد أركون وعبد اللطيف اللعبي وبيير بورديو وغيرهم.
كما جسّد البرنامج انفتاحه على التجارب الفنية الجديدة، من خلال جلسة حوار مع المطرب المصري الشاب محمد محسن، الذي اشتهر بأمرين: أولهما انطلاقته الفنية من قلب ميدان التحرير في القاهرة مع ثورة 25 يناير، وثانيهما تأثره بسيد درويش على مستوى فنه وسيرته.
 
رؤية فنية
 
يبقى أن نثني على الرؤية الجمالية المميزة لبرنامج “بيت ياسين”، إذ استطاع المخرج هشام عبد الرسول أن يكسّر تلك الصورة النمطية التي تكرّست في العديد من القنوات التلفزيونية العربية عن البرامج الثقافية، بحصرها في مجرد الكلام والثرثرة والسجال العقيم. فمنذ “جينيريك” البداية، يُدخلنا المخرج إلى عالم الفن والإبداع من خلال زوايا الالتقاط وحركية الكاميرا وتوزيع الإضاءة ونوعية الموسيقى وطريقة الإلقاء والتعليق الصوتي، مرورًا بتنويع المَشاهد وتكسير جلسة الحوار بتقسيمها إلى ثلاث لحظات أساسية، تتخللها لحظة تبادل أطراف الحديث على مائدة المأكولات والمشروبات.
ومن ثم، فـ”بيت ياسين” ليس مجرد مكان لاستضافة المبدعين فقط، وإنما يستضيف أيضا ـ بطريقة ما ـ المُشاهدين الذين يجدون أنفسهم منصهرين في فضاءاته. كما أن اللمسة الإبداعية الماهرة التي تميّزه تجعله أشبه ما يكون بعمل فني يمتع الحواس كلها ويخاطبها برقي وجاذبية ونبل حضاري.
 
كاتب من المغرب