عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    20-Jan-2021

تاريخية المعرفة وحق الإنسان أن يكون مفهوماً*جمال الطاهات

 الدستور

أهم ميزة يمكن اكتشافها من استعراض تاريخ المعرفة، أن هناك صراع معرفي أو تنافس، بين إخضاع الإنسان لمعرفة منجزة ونهائية، وبين الحفاظ على تعالي الإنسان على المعرفة، والتمسك بأن ما ينجز في مسيرتها وتطورها هو لخدمة الإنسان. فما يتحقق من منجزات معرفية هو لتطوير حياة الإنسان، ولا توجد معرفة نهائية. فالمعرفة طاقة إنسانية متطورة لتنظيم حياة الإنسان مع نفسه ومع الآخرين، ومع الطبيعة، وبشكل متزامن.
إن الثورة العلمية، هي لحظة انبثاق الخيار الحاسم بتكريس التعالي الإنساني على المعرفة، عبر تمكين الإنسان من إنتاجها وتطويرها. فقيمة العلم بمنهجيته، ليقوم الإنسان بتحصيل المعرفة التي يحتاجها. فمن أهم أعمال فرانسيس بيكون أطروحته بعنوان (تقدم التعليم). حيث ارتكز إلى التعليم والتعلم، كمدخل لتكريس المنهج الجديد لانتاج المعرفة: «[الأفراد] يجتهدون لبناء عالم من تصوراتهم، ويشتقون من عقولهم كل ما يلزمهم لتوظيفه، ولكنهم إذا قاموا بدلاً من ذلك باستشارة تجاربهم وملاحظاتهم، سيواجهون الوقائع وليس الآراء، ليتفكروا بها، وممكن لهم بعدها الوصول إلى معرفة القوانين التي تحكم العالم المادي». فالثورة العلمية لم تقدم معرفة منجزة، ولكن منهجية لتحصيلها.  
وهذه المنهجية مكنت الإنسان، من توظيف المعرفة التي لديه، وتنظيم حياته حسب ما تمنحه من ممكنات، والسعي لتطويرها بذات الوقت. فأشواقه وسعيه للتطور، ورفضه لإملاءات المعرفة التي بين يديه، ومحدوديتها لحل مشكلاته الجديدة، دفعته لتطويرها بشكل مستمر. فكل ما لدينا من معرفة هي منجزات إنسانية مؤقتة. فليس هناك «حقيقة نهائية» قدمها المجهود المعرفي الإنساني، بل سلسلة من التصورات قادت ووجهت السلوك الإنساني عبر المراحل المختلفة.
وفي هذا السياق، فإن حق الإنسان أن يكون مفهوماً، ليس اكتشافاً لتقنية الفهم، بل هو محاولة لتطويرها وتعليمها لتمكين الأفراد من أداة جديدة تساعدهم على تطوير حياتهم وتطوير علاقاتهم مع الطبيعة والمجتمعات الأخرى. والذي يستدعي تطوير هذه المنهجية، هو الحاجة الملحة لاكتشاف وسيلة تمكن الأفراد والجماعات من تطوير علاقاتهم عبر الثقافات المختلفة. ثورة النقل والاتصال، استلزمت هذه الحاجة، التي تستدعي البحث عن وسيلة لتطوير قدرات الإنسان وتمكينه من خدمة حاجاته الجديدة. فالتواصل بين الثقافات والهويات يتطلب منهجية معرفية لخدمته وتطويره.
فالمبادرة ليست نظرية جديدة لتفسير العلاقة بين الثقافات والمجتمعات، فهي لا تصف ديناميكا هذه العلاقة، ولكنها محاولة لتطوير وسيلة أو أداة معرفية (منهجية)، هدفها مساعدة الأفراد على التعارف والتفاعل بشكل إيجابي. والمبادرة مبنية على أساس أن المعرفة وطرائقها لتطوير فعل الإنسان وأنشطته، وذلك عبر تطوير خياراته وقدراته لإنتاج المعرفة التي يحتاجها، لحمايته من التضليل وصناعة الجهل. ومضمون المبادرة هو تعميم منهجية معرفية جديدة تمكن المجتمعات (عبر تمكين الأفراد) من تنظيم العلاقة فيما بينها، استناداً إلى معرفة يتم تحصيلها بتطبيق هذه المنهجية.
نقطة الانطلاق للمبادرة، هي نقل القيمة الأخلاقية من مستوى الموعظة إلى مستوى التمكين. فالمبادرة تستند إلى تمكين الأفراد من إنتاج المعرفة التي تساعدهم على تحقيق هدف العيش المشرك كقيمة إنسانية عليا، وليس الاكتفاء بوعظهم بها. فما دامت القيمة الإنسانية العليا المعاصرة هي العيش المشترك والاشتباك الإيجابي، والتفاعل على أساس المصلحة المشتركة، فإن المطلوب منهجية معرفية (أداة تطور قدرات الإنسان) تمكن الأفراد من انتاج المعرفة التي تخدم هذه القيمة، وتساعدهم على بناء علاقات سلمية وإيجابية عبر الثقافات والهويات المختلفة. فالمطلوب إنسانياً صيانة السلم ليس عبر التجاهل والتدابر، وعبر الموعظة، ولكن بتزويد الأفراد من اداة منهجية تساعدهم على بناء علاقة إيجابية وسلمية، عبر الثقافات والهويات والمختلفة.