عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    02-Dec-2025

غزة: مختبر المأساة المستمرة

  الغد

ناثان ج. براون* - (مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط) 2025/11/13
 
يسمع سكان غزة أخبارًا تقول إنهم سينجون من الموت، وإن بإمكانهم البقاء في أي مأوى مُرتجَل يجدونه. لكن كل الجهود الأخرى تتداعى بالرغم من النشاط الدبلوماسي رفيع المستوى وما يفضي إليه من مداولات لصياغة قرارات جديدة. وفيما يشعر سكان القطاع أن هذا الوضع لا يحتمل، لا تجد الأطراف الأساسية الأخرى ضيرًا فيه. والأسوأ من ذلك كله هو المساعي الواضحة للترويج لجحيم البؤس هذا، ليس بوصفه واقعًا يمكن احتماله فحسب، بل كخيار مثالي يمكن استمراره لأجل غير مسمى.
 
 
منذ بداية الحرب على غزة قبل أكثر من عامين، تغاضى الدبلوماسيون والمحللون عن أهوال الميدان، متطلعين إلى آفاق مستقبل مختلف وأفضل حالًا. وفيما يمكن تفهم هذا الميل إلى التفاؤل البناء، لا شك في أنه أدى إلى نوع من التغافل، ليس عما كان يحدث فعليا فقط، بل أيضًا عن المسار المرجح للأحداث -والأهم، عما كانت الحكومة الإسرائيلية نفسها تعلن أنها تفعله. فمنذ البداية، أسهمت تلك الخطط الإيجابية (أو بالأحرى الأمنيات) بشأن "اليوم التالي" في حجب الحقيقة المهولة؛ أن "هذه الحرب قد لا يأتي بعدها يومٌ تالٍ أساسًا". وما يزال هذا التغافل الدولي قائمًا اليوم، إذ يشهد الميدان حالة من الجمود خلف واجهة من الحراك الدبلوماسي الذي أثارته خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب ذات العشرين بندًا.
لكن الحقيقة المرة التي تفرغ تلك الخطة من أي جدوى هي أن أحدًا لم يوافق عليها بعد. فتظهر بوادر تطبيق جدية لثلاث نقاط فقط، وهي وقف إطلاق النار، وإعادة نشر القوات الإسرائيلية، وتبادل الأسرى والجثامين بين الفلسطينيين والإسرائيليين. أما بقية البنود، فهي بمعظمها أهداف مبهمة تفتقر إلى آليات تنفيذ واضحة. وهذا مقصود لسبب محدد؛ فالعناصر الأساسية التي تضمن قبول أي طرف بالخطة، ولو صُوريا، تُقابَل برفض صريح من الأطراف الأخرى. على سبيل المثال، اشترطت بعض الدول العربية إعطاء دور للسلطة الفلسطينية والإشارة إلى إقامة دولة فلسطينية، بينما ترفض إسرائيل هذين الشرطين رفضًا قاطعًا.
فلماذا التظاهر بأن الواقع مغاير؟ بطبيعة الحال، يشعر البعض بالارتياح لوقف معظم الأعمال القتالية (وليس كلها) ولإطلاق سراح عدد كبير من المحتجزين. لكن البعض الآخر يخدعون أنفسهم، حيث قرنت معظم الأطراف رفضها الصارم لعناصر معينة من خطة ترامب بمدح الرئيس الأميركي، في حين أن ترامب نفسه تراجع عن البند الفضفاض الذي ينص على أن الفترة التي تلي إعادة الإعمار والإصلاح "قد تتوافر فيها أخيرًا ظروف تتيح شق مسار موثوق نحو تقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما نعترف به بوصفه طموحًا للشعب الفلسطيني". وبدلًا من تسهيل هذا المسار، ما يزال الرئيس في حيرة من أمره، حيث أشار إلى أن "الكثير من الناس يفضلون حل الدولة الواحدة، والبعض يفضل حل الدولتين. سنرى. لم أُعلق على هذه المسألة".
هل من أمل في المضي قدمًا؟ حاليًا، ثمة خياران مطروحان على طاولة البحث، ولا يجدي أي منهما نفعًا. الأول هو السعي إلى تنفيذ بعض إجراءات الإغاثة وإعادة الإعمار والإدارة، التي تخفي الخلافات ولا تعالجها، بما يحقق شكلًا الالتزام بخطة ترامب، ولكن من دون تأثير حقيقي على المدى الطويل. على سبيل المثال، في حال تشكيل "قوة الاستقرار الدولية" فعلًا، من غير المرجح أن تحقق الكثير في ما يتعلق بحفظ الأمن أو العمل الشرطي أو نزع السلاح أو انسحاب القوات الإسرائيلية. وإذا أرسلت مجموعة من الخبراء المكلفين من جهات دولية لإدارة بعض مناطق غزة، فربما يتولى أعضاؤها مناصبهم فعلًا، ولكن، في أحسن الأحوال، يبدو من غير الواقعي الاعتقاد بأن هؤلاء سيحظون بالترحاب لمجرد أن بعضهم مسلمون أو عرب، أو بأنهم سيتمكنون من بناء منظومة حكم جديدة معادية لـ"حماس".
المسار الأول يحقق تقدمًا على الورق فقط. والمسار الثاني لا يحقق تقدمًا إلا في مخيلة البعض. يظن عدد من المراقبين أن باستطاعتهم تطبيق الخطة من خلال الادعاء (أو الدعاء) بأن الأطراف الرئيسة ستتخذ إجراءات لا تخدم مصالحها، والتي سبق أن أعلنت تلك الأطراف مرارًا، وبوضوح، أنها لن تتخذها إطلاقًا. يمكن بالطبع إحراز تقدم في حال وافقت إسرائيل على منح السلطة الفلسطينية دورًا فاعلًا في غزة والتزمت بحل الدولتين، لكنها لن توافق على ذلك. وربما يمكن إحراز بعض التقدم في تنفيذ الخطة لو أن الدول العربية توافق على العمل، بتوجيه من الولايات المتحدة، لاستكمال تدمير "حماس" بعدما عجزت القوات الإسرائيلية عن تحقيق هذا الهدف. لكنها لن توافق على ذلك هي الأخرى.
ما مصير غزة في ظل هذا الواقع؟ القطاع مقسوم حاليًا إلى منطقتين. تحتل القوات الإسرائيلية الأراضي الواقعة على أحد جانبي "الخط الأصفر" الجديد، ولا تسمح لـ"حماس" بالعمل هناك. وفيما توافق إسرائيل على دخول المساعدات -وحتى على إعادة الإعمار- في تلك المنطقة، فإنها لا تبدي اهتمامًا بإنشاء نظام حكم أو إدارة فعالة. ويسمح للعشائر المتعاونة مع إسرائيل بالعمل، ولكن ليس بوصفها هيئات حاكمة، بل كميليشيات وشبكات محسوبية.
وعلى الجانب الآخر يعيش معظم سكان غزة. وقد عاودت "حماس" الظهور، وتفرض حضورها بقسوة أحيانًا، ولكن من دون وجود نظام فعال قادر على إدارة توفير الخدمات الأساسية. وما من عملية إعادة إعمار جدية تلوح في الأفق. التعليم مثلًا يستأنف ببطء. ولكن في ظل دمار معظم المدارس أو تضررها واستخدام الكثير من المدارس المتبقية كملاجئ مؤقتة، يبدو أن عودة النشاط التعليمي تقتصر إلى حد بعيد على محاولات بسيطة قائمة على الدروس الإلكترونية (نظرًا لتعذر إدخال المواد التعليمية إلى القطاع).
تكاد عملية إعادة الإعمار تكون مستحيلة في ظل هذه الظروف. حتى تزويد السكان بالإمدادات الأساسية ليس مضمونًا. وتسمح إسرائيل من حين إلى آخر بوصول المساعدات إلى المنطقة الواقعة خارج سيطرتها، لكنها منعت الجهات الأكثر خبرة في العمل الإنساني من المشاركة في العملية. ومع أن خطة ترامب كانت دقيقة حول هذه النقطة على غير العادة، فإن وعدها ظل حبرًا على ورق، علمًا أنه نص على أن "دخول المساعدات إلى قطاع غزة وتوزيعها سيتم من دون تدخل أي من الطرفين، ومن خلال الأمم المتحدة ووكالاتها والهلال الأحمر، إضافة إلى مؤسسات دولية أخرى غير مرتبطة بأي من الطرفين". ولا تكتفي إسرائيل بمنع معظم هذه الجهات من العمل بحرية في غزة، بل توجه أيضًا اتهامات لاذعة ولا أساس لها بحق الهيئة الأقوى، وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، مساويةً إياها بشكل غير مقنع إطلاقًا بـ"حماس". ولم تتعرض معظم المنظمات غير الحكومية إلى مثل هذه الافتراءات، لكن حفنة منها فقط يسمح لها بالعمل بحرية.
أما التطور الأكثر إثارةً للقلق، فهو وجود مؤشرات واضحة على أن الوضع الراهن في غزة ليس مجرد نتيجة مؤسفة للجمود الدبلوماسي، بل هو حصيلة يسعى البعض إلى تبنيها كحل. ونظرًا إلى أن إسرائيل تستطيع تكبيد "حماس" خسائر كبرى، ولكن من دون أن تتمكن من القضاء عليها، فإن البعض يحثونها على تحويل الجمود الحالي إلى استراتيجية. وبموجب هذا التصور الجريء، ستكون الأراضي التي تحتلها إسرائيل في غزة مناطق تزدهر فيها إعادة الإعمار، وتتوافر فيها السلع الأساسية بكثرة، ويشارك سكانها في "بناء مجتمع أفضل". أما المناطق المجاورة الخارجة عن سيطرة إسرائيل، فستواصل "حماس" نشاطها فيها وسيعيش سكانها مع الحرمان والدمار.
لماذا يحكم على عدد كبير من الناس بالعيش في الخيام والاعتماد على مساعدات إنسانية غير مضمونة؟ معظم الذين يروجون لهذا المسار يتجاهلون ببساطة حجم الدمار الهائل اللاحق بغزة وكيف بات معظم سكان القطاع يكافحون للبقاء على قيد الحياة. ولكن إذا لم يتطرق هؤلاء إلى البؤس الحاصل، فلأن المسار الذي يوصون به يعتمد بالكامل على التوصل إلى ترتيب يبقي الفلسطينيين في حالة من المعاناة بين الأنقاض في أي مكان تظل "حماس" متواجدة فيه.
يفترض، وفق هذا المنطق، أن تفضي مأساة سكان غزة إلى زوال "حماس"، وأن تظهر منطقة غزة المزدهرة على الجانب الآخر من "الخط الأصفر" الإسرائيلي لغزة الغارقة في البؤس في الجانب غير الخاضع للسيطرة الإسرائيلية من القطاع، الثمنَ الباهظ الذي يتكبّده الفلسطينيون في ظل حكم "حماس"، وأن يبدل ذلك في نهاية المطاف موقف الفلسطينيين. ووفقًا لما يعتقده البعض، هكذا جرت استمالة العراقيين الشيعة والسنة بعيدًا عن الصدريين والجهاديين قبل عقدين من الزمن. وحتى أولئك الذين يعترفون بخطر أن يتحول "الخط الأصفر إلى الحدود الجديدة لغزة"، من دون أن يكونوا قادرين على التعامل معه، تبنوا هذه الفكرة.
إن الحجج التي يقوم عليها هذا الطرح غير مقنعة، وربما لم تتبلور بعد في شكل سياسة متسقة، لكن جاريد كوشنر عبر مؤخرًا عن نسخة مخففة من هذه المقاربة، فقال: "لن تخصص أي أموال لإعادة إعمار المناطق التي ما تزال تسيطر عليها حماس". وأيد جي دي فانس ما بدا أنه نسخة من هذا النهج، حين صرح قائلًا: "ثمة منطقتان أساسيتان في غزة. الأولى يعيش فيها نحو مائة ألف إلى مائتي ألف من سكان غزة. وهي خالية إلى حد كبير من ’حماس‘ -ليست خالية تمامًا- لكنها نوعًا ما آمنة. أما المنطقة الثانية فنسميها "المنطقة الحمراء"، حيث ما يزال لـ’حماس‘ وجود ملحوظ، وهي ما تزال منطقة خطرة. نعتقد أن بإمكاننا البدء بإعادة إعمار المناطق الخالية من "حماس" بسرعة، وربما إعادة مئات الآلاف من سكان غزة للعيش فيها بسرعة... هذه هي الفكرة: أن نرى المناطق الخالية من ’حماس‘ وأن نباشر عملية إعادة الإعمار فيها بسرعة، وأن نعيد السكان إليها ليعيشوا، ويحصلوا على عمل جيد، وينعموا ببعض الأمان والراحة".
ليس السؤال الأساسي الذي يجب على المحللين طرحه ما إذا كان المسار نحو حل الدولتين قد تبلور فجأة، بل ما إذا كانت معاناة العامين الماضيين ستشكل جزءًا لا يتجزأ من بنية النظام الإقليمي. فما بدا وكأنه حرب لامتناهية قد يكون في طور التحول إلى مأساة دائمة.
 
* ناثان ج. براون: أستاذ العلوم السياسية في جامعة جورج واشنطن وباحث معروف في قضايا الحركات الإسلامية والسياسة الفلسطينية والأنظمة الدستورية والقضائية في العالم العربي، ألّف ستة كتب من أبرزها "المشاركة لا المغالبة" (2012). شغل مناصب بحثية مرموقة في مؤسسات دولية مثل كارنيغي وغوغنهايم ومركز وودرو ويلسون، وشارك في لجان استشارية وهيئات أكاديمية بينها "هيومن رايتس ووتش" وجامعة القاهرة، كما عمل مستشاراً لجهات دولية كالأمم المتحدة وUSAID، وترأس جمعية دراسات الشرق الأوسط بين 2013 و2015.