عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    14-Jan-2021

الإذاعة الأردنيّة وذاكرة طفل: (4) الخُطوط*أ.د. وائل عبد الرحمن التل

 الدستور

بعد أن رحلنا، بُكاةٌ، عن جِوار «إذاعة المملكة الأردنيّة الهاشميّة» وتغيّرت دارُنا بدارٍ ومدرستي بمدرسةٍ درستُ الصّف الثالث الثانوي في «ثانويّة العاصمة الأهليّة» بجبل الحسين، وكنتُ في شعبة «ب»، وأجلسُ في المقعد الأول من جهة النوافذ المُطلّة على الفضاءات الخارجيّة، وكان يشاركني في المقعد نفسه الصديق العزيز «فيكين طوروس طوكجيان»، وصديقي هذا يتميّز بخُلُقٍ رفيع، وبأناقةٍ في لباسة، وكانت الخطوط المستقيمة الملوّنة العنصر المشترك بين كل «بلوز» يرتديه، وحين كنّا نتبادلُ الحديث في استراحة منتصف جدول الحصص اليومي (مع ساندويشة فلافل مطعم الهناء) يُعرِّجُ بحديثه على معدن الذّهب، فصياغته والتجارة فيه مهنتهم، أمّا أنا فكان معظم حديثي يقتصرُ على «إذاعة المملكة الأردنيّة الهاشميّة» بين (1972- 1980م)، والدافع الأكبر لحديثي عنها أني كنتُ أرى علاقة ارتباطيّة بين الخطوط المستقيمة الملوّنة ومعدن الذّهب والخُلُق الرفيع وبين «الإذاعة الأردنيّة»، فهي عندي الوجه الآخر لها.
 
خطوط «إذاعة المملكة الأردنيّة الهاشميّة» بين (1972- 1980م) كلَّها شاهدتُها وعرفتُ قوةَ وصلابةَ قواعدها، ووضوحَ أهدافها، واستقامَتَها وألوانَها ومعدَنَها وخُلُقَها ولسانَها، وعِشقَها الأرض وتجذّرها فيها وانتماءَها، وحبَّها ووفاءَها وولاءَها، وممارساتها المهنيّة الاحترافية.
 
ففي «إذاعة المملكة الأردنيّة الهاشميّة» خطوطٌ نافَحَتْ بها عن سماحة الإسلام واعتنتْ بها في تكويننا الدّيني وتحصينه بالوسطيّة والاعتدال من اختراقات الفكر وانحرافات الخُلُق وانزلاقات النّفس، ومنها خطوطٌ لم يرتجّ فيها صوتٌ ولم تَخفت لها نبرةٌ نافَحَتْ بها عن حياضِ العروبة، ومنها خطوطٌ تستعرُ لهيباً نافَحَتْ بها عن حياضِ وطننا لتصلَ إلى كلّ المتربصين للعبث بأمنه، وإلى كلّ الكائِدين من أهل الشَّطط والخِداع الذين تغلّفوا بألقابٍ مُنمَّقة وبأفكارٍ مسمّياتها رنّانة لإشاعة الزّيغ فينا، وإلى كلّ أدعياء الوطنية الذين كانوا يَطعنونَنا في خاصِرَتنا والتشكيك بانتمائنا وولائنا لننحني أمام قناعاتهم ومصالحهم وانطباعاتهم ونستسلمُ لها.
 
وفي «إذاعة المملكة الأردنيّة الهاشميّة» خطوطٌ جَمَعتْ بها ذاتَنا من الحَدِّ إلى الحَدِّ على «الوطن»، وأدارَتْ التنوّعَ فيه بكلِّ بِقاعِهِ للحفاظ على وحدتنا الوطنيّة وتعميق اعتزازنا بهويّتنا، ووَحَّدَتْ أفئدتنا صوبَ «عَمّان» عشقاً وفخراً، وَمَدَّتْها حول «صقر قريش» وفاءً وولاءً، وحول «العَرْش» «المَرْمَر» أملاً وقوةً ومَنَعَة.
 
وفي «إذاعة المملكة الأردنيّة الهاشميّة» خطوطٌ أسهمتْ بها في بناء وطننا وتحقيق تطلعاته، وفي تهيئة بيئة داعمة لمسيرته التنموية بمختلف مجالاتها السّياسية والتعليميّة والزّراعية والصّناعية وغيرها وتعزيز مشاركتنا فيها، بل كانت تستشعرُ ما قد يواجه هذه المسيرة التنمويّة من تحديات وصعوبات ومشكلات فتُقدِّمُ لمواجهتها بدائلَ غير تقليدية، ومنها خطوطٌ اعتنتْ بها في تنمية ثقافتنا الوطنيّة والحفاظ على تراثنا وموروثاتنا وتعميق قيمتها والتفاؤل بها في نفوسنا لنتمسّك بها ونتفاعل معها، ومنها خطوطٌ عَزّزت بها جودة الحياة النفسيّة والجسميّة والاجتماعيّة والمهنيّة لتحسين أنماط حياتنا وأساليب معيشتنا وعلاقاتنا وتفاعلاتنا وتقديرنا للذّات وتحقيق الرضا والتوافق والتفاؤل، وغيرها.
 
أخيراً، هذا مقطعٌ من خارطة خطوط «إذاعة المملكة الأردنيّة الهاشميّة» بين (1972- 1980م)، ولم يكُن نجاح هذه الخطوط ليتحقق بصوتٍ نتوقّف معه عند شَكليات جماله ونقائه وقوّته، أو يتوقّف هو بنا عند أنانيّته في التلاعبِ بنبراته ومفرداته لبناء شعبيّته، وإنما يتحقق نجاح هذه الخطوط بِـ «فكرِ» «وثقافةِ» «ونبضِ» إعدادها، وبِـ «صوتٍ» يكون بحجم ارتفاعِها وامتدادِها وعمقِها، وبحجم «هنا عَمّان: إذاعة المملكة الأردنيّة الهاشميّة»، والحديث في الأصوات يأتي.