فيسبوك محمد عبد الحفيظ المناصير
كتب : عماد الشبار:
في ذاكرة الإعلام الأردني، أسماء لا تُنسى، وأصوات ما تزال تتردد في وجدان من عاصروا فجر البث الإذاعي الأردني. من بين تلك الأسماء يبرز نقولا حنا زابورة، الشهير بلقب "أبو جوني"، كأحد أعمدة العمل الإذاعي، وواحد من الأصوات التي ساهمت في صياغة وجدان الأردنيين ومخاطبة وعيهم على مدار أكثر من نصف قرن من الزمن.
وُلد نقولا حنا في الأردن في أربعينيات القرن العشرين، وفي وقت مبكر من شبابه انجذب إلى عالم الكلمة والصوت، فالتحق بـالإذاعة الأردنية في أواخر خمسينيات القرن الماضي، حين كانت الإذاعة لا تزال في طور التأسيس والتطور. بدأ كقارئ أخبار، وسرعان ما لفت الأنظار بفضل صوته العميق، وأسلوبه المتزن، ومخارج حروفه الدقيقة، إلى جانب شخصيته الودودة وحضوره المتواضع.
أحد أبرز محطات حياته المهنية، حين قرأ أطول نشرة أخبار في تاريخ الإذاعة الأردنية، وذلك يوم احتراق المسجد الأقصى عام 1969، على يد متطرف يهودي أسترالي الجنسية. كان ذلك اليوم مفصليًا في التاريخ العربي والإسلامي، وكان نقولا حنا هو الصوت الذي اختارته الإذاعة الأردنية ليُعلن عبر الأثير للعالم ما حدث، ولينقل الغضب والحزن والموقف الأردني بدقة وأمانة، فاستمر في قراءة الأخبار لساعات طويلة، دون كلل، وبكامل الحرفية والانضباط.
من أبرز ما قدمه نقولا حنا خلال سنوات عمله، برنامج "بلدان وأحداث"، الذي استمر لأكثر من 500 حلقة حتى أوائل التسعينيات. وهو من اعداد الدكتور محمد المناصير .. كان هذا البرنامج منبرًا أسبوعيًا يُسلّط الضوء على التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في العالم العربي والعالم، ويُحللها بموضوعية وبلغة مبسطة، بعيدًا عن التهويل أو الخطاب الشعبوي.
شارك في تقديم البرنامج إلى جانب مذيعين ومذيعات بارزين مثل:
نداء النابلسي
ضياء فخر الدين
زهور الصعوب
نعيمة الدباس
خلدون الكردي
أما الإخراج فكان بتوقيع مجموعة من أهم المخرجين الإذاعيين: أديب غرايبة، موسى عمار، وعطا خليل. وكان البرنامج من إعداد الإعلامي المعروف محمد المناصير.
امتلك نقولا حنا نبرة صوتٍ تُناسب اللحظات الجليلة، ولهذا كان يُكلف بتقديم البرامج الخاصة بالمناسبات الوطنية الكبرى مثل عيد الاستقلال، عيد الجيش، ويوم الكرامة. كان أداؤه في هذه اللحظات يجمع بين الجدية والعاطفة، وبين الرسمية والدفء، ما جعله مقبولًا لدى جميع أطياف الشعب الأردني.
عرفه زملاؤه ومتابعوه بكونه إعلاميًا نزيهًا، شديد الدقة، حريصًا على تحري الحقيقة، وملتزمًا بأعلى معايير الأخلاق الصحفية. لم يكن يقرأ النشرة الإخبارية إلا بعد مراجعة دقيقة، وكان يتحقق من كل كلمة تُكتب، احترامًا للعقل الأردني والعربي. كما أنه كان حريصًا على نقل الصورة بصوت صادق، دون تزييف أو تهويل.
كما اشتهر بين زملائه بـدماثة الخلق، وروح التعاون، والابتعاد عن الأضواء، رغم مكانته البارزة في المشهد الإعلامي الأردني.
بعد مسيرة حافلة بالعطاء، انتقل نقولا حنا في أواخر حياته إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث عاش مع أسرته. وعلى الرغم من بعده الجغرافي، ظل يتابع الإعلام الأردني، ويحنّ إلى أيام البث المباشر، وأستوديوهات الإذاعة، وزملائه القدامى.
توفي الإعلامي الكبير نقولا حنا زابورة في عام 2023، في غربته الأمريكية، بعد سنوات طويلة من التقاعد، لكنه بقي في ذاكرة الأردنيين كواحد من أصدق الأصوات، وأعمقها تأثيرًا.
إن الأثر الذي تركه نقولا حنا لا يُقاس فقط بعدد برامجه أو سنوات عمله، بل بما خلّفه من مصداقية وثقة واحترام للمهنة. لقد ساهم في صياغة الوعي العام، وكان أحد منارات الإعلام الأردني، وعلّم أجيالًا من المذيعين قيمة التحضير، وأهمية الحياد، وسحر الصوت الهادئ.
لقد كان، بحق، "صوت الحكمة"، و"راوي التاريخ الإخباري" الذي ظل حاضرًا في الوجدان، حتى بعد أن صمت المايكروفون.
المهندس عماد الشبار.. تلك الايام