فن الصياغة التشريعية وحقوق الإنسان* د. فريال حجازي العساف
الدستور -
يُسجل بالاعتراف أن المشرع قد سعى في كل زمان ومكان الى جعل التشريع الأداة التي يتم بواسطتها تنظيم العلاقات بين مختلف مجالات الحياة بما يتلاءم مع المنظور الحقوقي؛ فقوانين حمورابي التي جاءت لتحارب الظلم وتحقق العدالة والكرامة تعتبر من التحف الفنيَة التي لم تفقد بريقها على مر العصور، تبعتها قوانين التشريع اليوناني في مدينة روما تحديداً، فكانت صياغة القوانين تتطور مع تتطور الذكاء والفهم الانساني بمشاركة القضاة ورجال الدين حتى وصلت الى الذروة القانونية ومنها تشريعات الامبراطور الروماني جستنيان، وما أن قامت الثروة الفرنسية عام 1789 التي ساهمت بشكل كبير في تطور الصياغة التشريعية وهدفت بشكل اساسي الى ارساء سفينة الحقوق الانسانية موضع التنفيذ.
يشير المعنى الاصطلاحي للصياغة التشريعية الى عملية نقل وتحويل المعطيات والحاجات والضوابط الاجتماعية بشكل منظم وملزم الى نصوص قانونية محكمَة تسعى إلى تحقيق الغاية الاساسية من التشريع والمتمثلة بحفظ الامن والامان والنظام والسعي إلى تحقيق العدالة والمساواة والتنمية والتقدم وحفظ الاستقرار والضوابط والمراكز القانونية، كون إن وقائع الحياة المتعددة تعصى على الادراك، في حين أنَ اساليب الصياغة التشريعية محددة الامكانات والطرائق. فالمشرع قد أخذ على عاتقه محاولة الموائمة بين طرفي المعادلة الصعبة للجمع بين كمال التحديد وإتقان التكييف، في محاولة وضع التشريعات في قالب يُسهل توصيلها إلى مستعمليها ويحفظ لهم آدميتهم وكرامتهم دون أي تمييز.
وبين الصائغ والمصوغ فنُ عريق ذو هدف نبيل ولأجل تحقيقه، لا بدَ من أن يتحلَى الصائغ بالعلم والمعرفة بعلوم الفقه والمنطق واللغة القانونية وادراك واسع المدى لعلم القانون وأصوله وتاريخ نشأته، لأجل ان يضمن بأن يخرج المصوغ في النهاية فاعلاً ومؤثراً عند التطبيق حافظاً لحقوق الغير.
إذ تلتقي الصياغة التشريعية والتزامات حقوق الانسان في تحقيق القواعد القانونية البناءة وأسلوب صنع السياسية البناءة بما ينصرف الى القواعد الاساسية المألوفة للديمقراطية مثل سيادة القانون والتعددية السياسية والاجتماعية والتسامح وصون الحريات وحفظ كرامة الإنسان، فوفقاً لقواعد القانون الدولي فإن أي دولة تصادق على معاهدة أو اتفاقية دولية يتوجب عليها أن تتخذ التدابير والإجراءات الملائمة وبما في ذلك الإجراءات التشريعية لتنفيذ المعاهدة او الاتفاقية بما يتفق مع أحكامها. ومن هنا فإن صياغة التشريعات وإصدارها تقتضي مراجعة المعاهدات والاتفاقيات الدولية ذات الأثر الملزم لمراعاة انسجام مشاريع القوانين الوطنية مع المعاهدات والاتفاقيات الدولية.
إن كيفية اتخاذ تلك التدابير تتطلب المشاركة الواسعة عند صياغة التشريع بين المؤسسات المسؤولة وتمكين المواطنين ابتداءً للوصول الى المشرع والتأثير فيه من أجل ايجاد صياغة تشريعية للقوانين تكون واضحة ومستقرة ومؤدية للغرض الذي جاءت من أجله ومعبرة عن الواقع الاجتماعي كون ان الصياغة الجيدة للتشريع تميل الى الاستقرار ومتفقة مع الافكار والتصورات والاغراض التي سعت القاعدة القانونية الى تحقيقها.
فالاستقرار القانوني المبني على الصياغة التشريعية الواضحة يُشكل الاساس المنطقي لاحترام حقوق الانسان، كونها تتسم بالوضوح وقابلية الفهم والتطبيق من جميع الفئات الاجتماعية المتباينة في مهاراتها اللغوية والعلمية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية إذ إن ديمقراطية الاسلوب تدعم شفافية التطبيق وتعزيز القدرة التنافسية للتشريع في مواجهة التغيرات المختلفة.