«مُفارقات» الحرب الإسرائيلية على غزة..!!*د. أحمد بطّاح
الراي
لعلّنا لا نبالغ إذا قُلنا بأنّ لكل حرب ما تشترك به مع الحروب الأخرى، ولكن لها «مفارقاتها»، أو ما تختلف به عن الحروب الأخرى، وإذا تأملنا في الحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة وجدنا أنّ هنالك «مفارقات» عديدة تختص بها هذه الحرب ومن أهمها:
أولاً: أنّ إسرائيل التي ضربت بنجاح في لبنان، وسوريا واليمن وحتى في إيران (التي تبعد مع اليمن أكثر من 2000 كم) لم تستطع أن تقضي على المقاومة الفلسطينية التي تقودها حماس، ولم تتمكن من استرداد أسراها بالقوة كما أرادت منذ بداية الحرب في عام 2023، وبعبارة أخرى فإنّ إسرائيل التي يُصنّف جيشها على أنه الجيش الثامن عشر في العالم من حيث القوة لا يستطيع في حرب «غير متناظرة» أن ينتصر نصراً حاسماً على «جماعات» مسلحة تسليحاً خفيفاً لا يُقارن بما يمتلكه الجيش الإسرائيلي من إمكانيات عسكرية هائلة.
ثانياً: أنّ إسرائيل لا تحارب المقاومة الفلسطينية حرباً تقليدية تعتمد فيها على السلاح فقط، بل تحارب حرب «إبادة جماعية» بكل ما في الكلمة من معنى، فهي دمرت 70% على الأقل من مباني قطاع غزة وبنيته التحتية، وهي هجّرَت السكان من مكان إلى مكان داخل القطاع وحصرتهم في حيز ضيق (مليونان وأكثر من السكان محصورون فيما لا يزيد عن 12% من مساحة القطاع البالغة 365 كم2، حسب بيانات الأمم المتحدة)، وهي جوّعت السكان إلى درجة استفزت جميع هيئات الأمم المتحدة (الأونروا، برنامج الغذاء العالمي، منظمة الصحة العالمية....) فضلاً عن استفزازها لضمائر جميع بني البشر، وفي جميع أنحاء المعمورة.
ثالثاً: أنّ إسرائيل وبخاصة في فترة حكم «إدارة ترامب» الحالية تحظى بدعم أمريكي كامل وغير مسبوق، فضلاً عن أن الولايات المتحدة تقدم لها أكثر مما يلزمها من أعتده عسكرية، فإنها تقدم لها «الغطاء السياسي» في جميع المحافل الدولية (وإلى درجة أنها تعاقب محكمة الجنايات الدولية التي اتهمت رئيس وزراء إسرائيل ووزير دفاعها بجرائم حرب!). إنّ إدارة ترامب الحالية تتماهى مع مواقف إسرائيل في سياق عملية تواطؤ مكشوف تدل عليه تصريحات «روبيو» وزير خارجية الولايات المتحدة، و «ويتكوف» مبعوث الرئيس ترامب إلى الشرق الأوسط، و"هاكابي» سفير الولايات المتحدة في إسرائيل. صحيح أن الولايات المتحدة كانت وما زالت حليفاً استراتيجياً دائماً لإسرائيل ولكنها لم تكن تعلن عن ذلك بشكل «مكشوف» أحياناً لا يليق بدولة عظمى تدّعي مراعاتها للقيم الإنسانية، وحرصها على إحلال السلام، ورغبتها في أن تكون وسيطاً نزيهاً!
رابعاً: في حين أن الشعب الفلسطيني في قطاع غزة يئن تحت وطأة «حرب الإبادة» التي تشنها إسرائيل عليه، تكسب قضيتُه على مستوى العالم، ففضلاً عن المظاهرات الضخمة في كثير من عواصم العالم ومدنه الكبرى (لندن، باريس، برلين...)، تعلن بعض الدول المهمة مثل فرنسا وبريطانيا (من الدول السبع الكبرى G7) عن عزمها على الاعتراف بالدولة الفلسطينية. إن الشعب الفلسطيني يخسر على أرضه: بشراً وبنية تحتية ولكن قضيته تكسب دولياً، ولعلّنا لا نبالغ إذا قلنا أن القضية الفلسطينية أصبحت القضية الأولى على طاولة العالم، وأنّ القوى النافذة عالمياً أصبحت تدرك أنه إن لم تُحلّ قضية الشعب الفلسطيني حلاً عادلاً، فلن يكون هناك سلام في منطقة الشرق الأوسط المهمة والحساسة، وما المؤتمر الذي تمّ عقده في «نيويورك» (برعاية فرنسا والسعودية) لإحياء «حل الدولتين» إلّا دليل على شعور العالم المتزايد بأهمية مقاربة القضية الفلسطينية والتعامل معها بإنصاف وعقلانية.
خامساً: أنّ هذه الحرب على شراستها وإضرارها بالشعب الفلسطيني، لم تفلح في ردم الهوة بين طرفي المعادلة الفلسطينية: السلطة الوطنية الفلسطينية التي تؤمن «بالحل السياسي» وما زالت ملتزمة «بأوسلو» (ولو دبلوماسياً وواقعياً) وهي الممثل الشرعي المقبول دولياً للفلسطينيين، و"حماس» وبقية فصائل المقاومة التي لا تحظى بالاعتراف الدولي ولكنها تمارس حقها في مقاومة الاحتلال وتقارعه بصلابة وعِناد. لقد كان مأمولاً في ظل الوضع المؤلم الحالي الذي تعيشه الجماهير الفلسطينية أن تتوافق القوى الفاعلة على الساحة الفلسطينية (وبالذات فتح وحماس) وأن تفرز «حكومة وحدة وطنية» تُمثل جميع الفلسطينيين وتعبّر عن حقيقة منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. إنها مفارقة حقيقية أن هذه الحرب وما تمخض عنها من خسائر وآلام (لا تقل عما تمخضت عنه نكبة 1948) لم تقد إلى وحدة فلسطينية تُعبّر عن موقف فلسطيني موحد يخاطب العالم بصوت واحد ويسحب الذرائع من إسرائيل وغيرها التي تدّعي بأنه ليس هناك طرف فلسطيني ممثل لجميع الفلسطينيين يمكن التحاور معه للوصول إلى حل نهائي.
إنّ الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ما زالت دائرة، ولا نستغرب أن تفرز «مفارقات» أخرى تميزها عن الحروب الأخرى، ولكن جل ما يتمناه كل عاقل وحريص على دماء الشعب الفلسطيني هو أن تنتهي هذه الحرب «الضروس» التي أضرّت بالفلسطينيين أيّمّا ضرر، ولكنها -ويا للمفارقة- فرضت قضيته على «أجندة» العالم، وجعلت من غير الممكن تجاهل حقوق الفلسطينيين في التحرر والاستقلال.