عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    15-Dec-2025

ماذا بعد محور المقاومة؟ القوة الدائمة للطائفية في الشرق الأوسط

 الغد

ترجمة: علاء الدين أبو زينة
ماريا فانتابيي؛ وولي نصر* - (فورين أفيرز) 10/12/2025
 
لا يعني تراجع "محور المقاومة" عسكريًا تراجع البنية الطائفية الشيعية التي سمحت لإيران ببناء نفوذها الإقليمي على مدى عقود. لقد تفكك المحور بفعل الضربات الإسرائيلية-الأميركية، وتقدّم قادته في العُمر، وصعدت هويات وطنية جديدة في العراق ولبنان وسورية، لكن الهوية الشيعية العابرة للحدود ما تزال حية وتتغذى على شعور متجدد بالحصار والخوف من التهميش. وسيعيد أي نظام إقليمي جديد لا يدمج الشيعة سياسيًا واقتصاديًا، ولا يمنحهم ضمانات واضحة داخل دولهم، إنتاج دوامات العنف ذاتها التي سمحت لإيران بمدّ نفوذها في الماضي.
 
 
أصبح من الشائع، كأحد المسلمات، القول بأن الضربات التي وجهتها إسرائيل والولايات المتحدة لإيران هذا العام، وما لحق بوكلاء طهران وميليشياتها الحليفة في غزة ولبنان وسورية من تفكك، حدّا بشكل حاسم من نفوذ إيران في الشرق الأوسط. لكن هذا التصوّر يسيء فهم طبيعة ما يُعرف بـ"محور المقاومة" الإيراني -وقدرة طهران الممكنة على إعادة بنائه من جديد.
بعد الغزو الأميركي للعراق في العام 2003، استغلت إيران حالة الفوضى الناجمة لبناء شبكة أيديولوجية عابرة للحدود، تضمّ جماعات شيعية وحكومات وميليشيات تمتد من إيران إلى العراق ولبنان واليمن والأراضي الفلسطينية -وهو ما أشار إليه بقلق الملك عبد الله الثاني في الأردن بـ"الهلال الشيعي". وبحلول العام 2014، كان المحللون كثيرًا ما يشيرون إلى أنّ طهران تسيطر على أربع عواصم عربية: بغداد، وبيروت، ودمشق، وصنعاء.
من منظور عسكري، يبدو هذا المحور اليوم ممزقاً بالكامل. مهندسوه الإيرانيون يتقدمون في العمر، وشركاؤهم في العالم العربي أنهكتهم الضربات الإسرائيلية المدمّرة. كما أسهم التقارب الحذر خلال العامين الماضيين بين إيران والسعودية -وهما الخصمان اللذان كان صراعهما يغذّي النزاع الطائفي في المنطقة- في تعزيز الانطباع بأن المعركة الطائفية في الشرق الأوسط قد وضعت أوزارها.
ولكن، حتى لو بدا أن الستارة تنسدل على محور المقاومة، فإن الهوية السياسية والدينية للشيعة ما تزال سليمة ومتماسكة. وعلى الرغم من أن شبكة الوكلاء الإقليميين التي اعتمدت عليها إيران ساعدتها في الحفاظ على نفوذ يفوق حجمها في العالم العربي، فإن صمود هذا المحور استند أيضاً إلى القوة المتجذّرة للإيمان، وروابط الجماعة والعائلة. ويظل السؤال حول ما سيؤول إليه مستقبل الشيعة في المنطقة بالغ الأهمية أمام الجهود التي تبذلها دول الخليج العربية والولايات المتحدة لإرساء الاستقرار في الشرق الأوسط بعد الحرب المدمّرة بين إسرائيل و"حماس". ويتعين على هؤلاء الساعين المحتملين إلى صنع السلام أن يولوا اهتماماً أكبر بكثير لدمج الشيعة في المنطقة -داخل إيران وخارجها على حد سواء- في الرؤية التي يتصورونها للنظام الإقليمي.
إن الخطة الحالية لنزع سلاح "حزب الله" من دون إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان -ناهيك عن غياب أي تعهّد بإعادة إعمار المناطق الشيعية المدمّرة، أو توفير بدائل للخدمات التي كان الشيعة يحصلون عليها من "حزب الله"، أو منحهم تمثيلاً أكبر في السياسة الوطنية- تعني عملياً تجريد الشيعة من حقوقهم. وإذا مضت إسرائيل إلى تنفيذ تهديداتها الأخيرة بغزو لبنان، فإن ذلك سيشكّل تهديداً وجودياً للمجتمع الشيعي في البلد، وسوف يدفعه إلى معاودة التعبئة والمقاومة. وبينما يتبلور الحكم السني في سورية، ويضغط الجيش الأميركي على الميليشيات الشيعية في العراق، ربما يتخذ شعور الشيعة بأنهم تحت الحصار بُعداً إقليمياً. وإذا جرى تهميشهم واستبعادهم من جهود بناء الدولة ومسارات الدبلوماسية، فمن المرجّح أن يعيدوا التمسّك بالسياسة الطائفية كاستراتيجية للبقاء، مما سيغذّي مزيداً من عدم الاستقرار. ومن دون أن يكون لإيران نصيب في النظام الإقليمي الجديد، فلن يكون بالإمكان احتواؤها بنجاح.
قفزة إيمانية
على الرغم من أنّ الشيعة لا يشكّلون سوى 15 إلى 20 في المائة من المسلمين في العالم، فإنهم يمثّلون نحو نصف سكان الشرق الأوسط المسلمين. ويشكل المسلمون الشيعة أغلبية السكان في البحرين وإيران والعراق، ويقتربون من تشكيل أغلبية في اليمن، كما أنهم أكبر جماعة دينية في لبنان. ومع ذلك، ظلّ وجه المنطقة طوال القرن العشرين سُنّياً. وفي العام 1979، صنعت الثورة الإسلامية في إيران أفقًا لصعود الشيعة -ومعه المقاومة السنية. وغذّت التوترات الطائفية الحربَ الإيرانية-العراقية المرهقة التي امتدّت من العام 1980 إلى العام 1988، وهي الحرب التي أسّست لنشوء روابط شيعية عابرة للحدود: على سبيل المثال، هرب أبو مهدي المهندس، الذي أصبح لاحقاً زعيم الميليشيات الشيعية في العراق، من بلده خلال تلك الحرب وقاتل إلى جانب نظرائه الإيرانيين ضد صدام حسين.
ثم اتّسعت هذه الروابط الشيعية العابرة للحدود بشكل كبير بعد أن قامت القوات الأميركية بإسقاط الحكومة العراقية في العام 2003، مؤذنة بذلك بانبعاث هوية دينية متجدّدة، بينما وجد عدد متزايد من الشيعة طريقهم إلى المقامات المقدّسة في إيران والعراق وسورية، وإلى مراكز التعليم الشيعي التاريخية في النجف إلى الجنوب من بغداد، وقُم إلى الجنوب من طهران. كما برزت قوى سياسية وعسكرية شيعية لملء فراغات السلطة داخل العراق. وفي منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة، استعان "الحرس الثوري الإيراني" بحلفائه العراقيين مثل المهندس، وبمقاتلي "حزب الله" اللبناني مثل علي موسى دقدوق وعماد مغنية، لتنظيم المقاتلين الشيعة العراقيين الذين رفضوا نزع سلاحهم والانخراط في المرحلة السياسية الانتقالية التي قادتها الولايات المتحدة.
عندما اندلعت انتفاضات "الربيع العربي" في العام 2011، توسّع النفوذ الإيراني والشيعي في العالم العربي أكثر، مع انزلاق سورية واليمن إلى أتون الحروب الأهلية. وقد اتخذت تلك الصراعات طابعاً طائفياً بحكم الأمر الواقع؛ لم يكن حكّام سورية العلويون ينتمون شكلياً إلى المذهب الشيعي، لكن التهديد الذي شكّله الإسلامويون السنّة عليهم دفعهم إلى التحالف الوثيق مع إيران و"حزب الله". وفي العام 2013، جندت إيران و"حزب الله" مقاتلين شيعة من أفغانستان والعراق وباكستان لمساندة جيش الرئيس السوري بشار الأسد في مواجهة الإسلامويين السنّة المدعومين من خصوم إيران الإقليميين السُّنيّين. وفي العام التالي، انضمّ فيلق "الحرس الثوري الإيراني" إلى ميليشيات شيعية عراقية لشنّ حرب شاملة ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" (المعروف أيضاً بـ"داعش") ذي القيادة السنية. وقاد قائد فيلق "الحرس الثوري"، قاسم سليماني، تلك الحملة، وأصبح حضورُه مألوفاً في ساحات القتال العراقية والسورية. وفي اليمن، مضى الحوثيون -الذين يتبعون المذهب الزيدي، أحد تفرعات التشيّع- في توثيق روابطهم مع إيران في سياق تحديهم لسنَة البلد.
اصطف كبار المرجعيات الدينية الشيعية، والطبقات الشيعية الوسطى التقليدية في أماكن مثل بغداد وبيروت، والنخب الشيعية التي كانت تخشى النزعة الطائفية الدموية لتنظيم "داعش"، في دعم الحرب ضد التنظيم. وحول ذلك الصراع إلى معركة ذات طابع شيعي في إطارها الأوسع. وفي حزيران (يونيو) 2014 -مع وصول "داعش" إلى مشارف بغداد- أصدر أكبر مرجع شيعي في العراق، آية الله العظمى علي السيستاني، الذي دائماً ما كان يعارض جهود إيران لحشد الشيعة في المنطقة للانخراط في حملات عسكرية، فتوى دينية تدعو الشباب العراقي إلى الالتحاق بميليشيات سليماني.
ساعدت الانتصارات في ساحات القتال ضد "داعش" في الحفاظ على حكم الشيعة وإدامته في العراق، وتعزيز قتال الحوثيين في اليمن، وترسيخ بقاء النظام البعثي في سورية. كما ساعدت على ربط القتال الذي خاضته الفصائل السنية -حركتا "حماس" و"الجهاد الإسلامي الفلسطيني"- ضد إسرائيل، بالنضال العام لـ"محور المقاومة". ومدفوعة بهذه النجاحات، استخدمت إيران المحور لمدّ نفوذها عبر البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، مُشكّلة ما يُعرف بـ"طوق النار" حول إسرائيل.
تفاقم الانقسامات
لكن الهزيمة الحاسمة لتنظيم "داعش" في العام 2019 خلقت الشروط اللازمة لتراجع محور المقاومة. فقد انخفضت نسبة تعبئة الشباب الشيعي للانضمام إلى الميليشيات المناهضة لـ"داعش" بشكل كبير. وأصبح كبار رجال الدين الشيعة في المنطقة أكثر تردداً في مزج الممارسة الدينية بالمشاركة في الجهود العسكرية الإيرانية. ومن موقعه في مدينة النجف العراقية، نأى السيستاني بنفسه علناً عن حملات المحور وأدان العنف الذي تمارسه الميليشيات، مجادلاً بأن القوة المستمرة للشيعة في العراق تستند إلى قدرتهم على بناء النفوذ داخل الدولة وفي السياسة.
كانت الميليشيات الشيعية قد سيطرت على مساحات واسعة من الأراضي العراقية خلال حملة مكافحة "داعش"، متجاوزة قدرة الجيش والشرطة العراقيين في العديد من المدن وأجزاء معينة من بغداد نفسها، مكتسبة قوة اقتصادية كبيرة مستقلة عن الحكومة المركزية. لكن مصداقيتها باعتبارها منقذة للشيعة وضامنة للاستقرار في العراق تراجعت حين تورطت في أعمال عنف وقمعت الاحتجاجات المناهضة للفساد. وفي العام 2020، قتلت ضربة جوية أميركية كلاً من قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، مسجلةً خسارة جديدة للمحور. وفي العام 2021، فازت الأحزاب العراقية المرتبطة بإيران وميليشياتها المدعومة من طهران بـ17 مقعداً فقط في البرلمان، في انخفاض عن 48 مقعداً كانت لها في العام 2018.
في البداية، بدا الهجوم الذي شنته "حماس" على إسرائيل في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 بمثابة عرض قوة هائل من المحور. لكنه أظهر في الواقع عيوب المحور وسرّع من تراجعه. وقد حاولت القوات الشيعية في المنطقة التعبئة دعماً لـ"حماس"، لكنّ إسرائيل قامت في تشرين الثاني (نوفمبر) 2024 بإلحاق أذى بليغ بـ"حزب الله" عن طريق تحويل معدات اتصالاته إلى عبوات ناسفة، مما أدى إلى مقتل 42 شخصاً وتشويه آلاف من عناصر الحزب ومسؤوليه، بالإضافة إلى اغتيال العشرات من قادته، وخاصة قائده الكاريزمي حسن نصر الله، في ضربة جوية. وبعد شهر من ذلك، انهار النظام السوري أمام تقدم جيش من المقاتلين السنة المدعومين من تركيا.
عندما شنت إسرائيل والولايات المتحدة هجومهما العسكري المباشر والمؤذي على إيران في حزيران (يونيو)، لم ينهض وكلاء إيران الشيعة للدفاع عنها. ولم يجد قادة إيران الذين أُجبروا على توجيه انتباههم نحو الداخل جدوى في إطلاق دعوات عابرة للحدود، ودعوا بدلاً من ذلك الجمهور الإيراني إلى الدفاع عن وطنه. وبالمثل، تحول الحلفاء الشيعة في العراق ولبنان بعيداً عن الخطاب المبني على الهوية الدينية العابرة للحدود، واحتضنوا هوياتهم الوطنية الخاصة بشكل أكثر قوة.
بدلاً من أن تُوجّه حلفاءها الإقليميين، تبدو إيران الآن وكأنها تتبع قيادة هؤلاء الحلفاء. وما كان يُعرف سابقاً كنظام نفوذ مركزي من محور وأذرع أصبح الآن أشبه لفيدرالية من المجموعات متشابهة التفكير تشترك في الأهداف، لكنها تعمل باستقلالية. في العراق، أصبحت إيران تشجّع وكلاءها على استبدال الزي العسكري بالبدلات المدنية والانخراط في العملية السياسية. وفي لبنان، ربما يقبل "حزب الله" نزع سلاحه تحت ضغط من إسرائيل والولايات المتحدة لتجنب خوض حرب مع إسرائيل أو صراع داخلي مع فصائل لبنانية أخرى. كما أن التغييرات التي تجري داخل إيران نفسها -من بروز النزعة القومية إلى تخفيف القيود الدينية، وبشكل خاص تخفيف قيود الحجاب- أصبحت تقوض موقف البلد كقيادة روحية عابرة للحدود.
كما أن القادة الذين أشرفوا على صعود الشيعة ينسحبون أيضاً من المشهد. أصبح القادة العسكريون ورجال الدين الذين شاركوا في الثورة الإيرانية في العام 1979 (والذين تمكنوا من الإفلات من الاغتيال) متقدّمين في السن. المرشد الأعلى في إيران، علي خامنئي، يبلغ من العمر 86 عاماً. والسيستاني، الذي أشرف على نهضة إقليمية للتقوى الشيعية تمحورت حول المدن المقدسة في العراق، يبلغ من العمر 95 عاماً ويعاني من المرض. وكانت النجف وقم منذ أمد بعيد مركزين متنافسين للتعليم الديني الشيعي، لكن النجف أصبحت خلال العقود التي ركزت فيها إيران على بناء قوتها العسكرية والسياسية، هي التي تشكل -أكثر من قم (أو طهران)- المرجعية الدينية الشيعية. وسيكون خليفة السيستاني في العراق، وليس خليفة خامنئي في إيران، هو مَن سيوجه الشيعة في شؤون الدين.
تسعى إسرائيل إلى تفكيك شبكة إيران الإقليمية من خلال تأجيج المزيد من الانقسامات داخل صفوف الشيعة. ووفق هذا المنطق، إذا ترسّخت في لبنان وسورية حكومات ضعيفة -لكنها طيّعة- والتي تقوم بمضايقة الأقليات في بلدانها أو تهديدها -وخاصة الشيعة- فإنّ الطاقة الشيعية ستركز على الصراعات الداخلية والنفوذ والمناطق بدلاً من توجيهها نحو مواجهة إسرائيل. وفي الوقت نفسه، تقوم إسرائيل التي تحتل جنوب لبنان بمهاجمة أهداف شيعية بشكل روتيني، مما يؤدي إلى مقتل عشرات المدنيين -وكذلك مقاتلين من "حزب الله". كما أنّ جهودها لمنع دمشق من بسط سيطرتها على سورية تدفع بالأقليات في البلد نحو مسار تصادمي مع حكومتهم المركزية في دمشق.
مخاطر خفيّة
مع ذلك، لا يعني تراجع القوة العسكرية الشيعية في مختلف أنحاء الشرق الأوسط أن الهوية الدينية للشيعة أو شعورهم بالانتماء إلى جماعة إيمانية عابرة للحدود قد ضعف. في الواقع، يزداد عدد الشيعة الذين يؤدّون الحجّ إلى المدن المقدّسة في العراق باطّراد عاماً بعد آخر، على الرغم من الخسائر السياسية والعسكرية. وفي شهر آب (أغسطس)، استقطب إحياء ذكرى استشهاد الإمام الشيعي الثالث ما يُقدَّر بنحو 21 مليون زائر إلى مدينة كربلاء العراقية.
مع تعثّر إيران وتزايد الضغوط على الميليشيات الشيعية لنزع سلاحها، يخشى الشيعة مستقبلاً موسوماً بالتهميش والعنف. اليوم، أصبحت سورية، التي كانت حجر الزاوية في المحور، خاضعة لحكم قادة من قدامى مقاتلي تنظيم "داعش" وفصائل سنّية متشددة أخرى قاتلت "حزب الله" خلال الحرب الأهلية السورية. ويحظى النظام الجديد في دمشق بدعم القوتين السنيتين الرئيسيتين في المنطقة، تركيا والسعودية، ويسعى إلى إبرام صفقة مع إسرائيل. وفي الوقت نفسه، يخشى الشيعة في لبنان والعراق أن يدعم النظام السوري الجديد في دمشق السنّة في بلدانهم، بما يغيّر موازين القوى على حسابهم.
بينما يشعر الشيعة بالتهديد والحصار، فإنهم قد يتجهون بحزم أكبر نحو تكوين هوية جماعية. وقد بدأت الأقليات الدرزية والعلوية في سورية بالفعل في مقاومة سلطة دمشق. ولمنع اندلاع حروب أهلية جديدة، وانهيار الحكومات، وعودة التطرّف -أي الظروف نفسها التي أتاحت لإيران بناء "محور المقاومة" في المقام الأول- ينبغي أن تركز جهود بناء الدولة في لبنان وسورية على ضمان منح حقوق متساوية لجميع المكوّنات. وإذا استبعدت بيروت ودمشق الأقليات، سيلجأ الشيعة المُهمَّشون إلى إيران مجدداً طلباً للدعم؛ وما إن يندلع الصراع حتى يأتي دعمٌ إيراني يشمل التدريب والسلاح والتمويل على الأعقاب.
في العراق، حيث تستمر العملية الدقيقة لتشكيل الحكومة والمفاوضات داخل البيت الشيعي، يجب تشجيع صعود قيادة شيعية معتدلة. ويتطلّب ذلك إدخال إصلاحات دستورية لتفكيك شبكات الزبائنية التي أسّسها المقاتلون السابقون الذين تحوّلوا إلى سياسيين (وهو نظام ما يزال يمنحهم مقاعد في البرلمان والمجالس المحلية). وقد مارست السياسة الأميركية في الآونة الأخيرة ضغوطاً كبيرة على الحكومة العراقية للنأي بنفسها عن إيران. ويتعيّن على واشنطن تجنّب إجبار بغداد على اتخاذ قرار حاد من هذا النوع؛ لأن ذلك قد يؤدي إلى تقويض مكانة القادة الشيعة المعتدلين وإفشال جهودهم الرامية إلى كبح التأثير المزعزع للمقاتلين السابقين الذين تحولوا إلى سياسيين، وحماية العراق من الانجرار إلى الصراع بين إيران وإسرائيل.
في مختلف أنحاء المنطقة، يعتمد منع العودة إلى دوّامة العنف على ضمان أن يرى الشيعة لأنفسهم مستقبلاً سياسياً داخل دولهم -دوراً وطنياً يمكن أن يحل محلّ الارتباط بأيديولوجيا عابرة للحدود- وأن تتاح لهم أيضاً فرص اقتصادية خارج نطاق رعاية الميليشيات. في لبنان، على سبيل المثال، لن يجلب نزع سلاح "حزب الله" وتفكيكه الاستقرار ببساطة. على مدى عقود، كان الحزب يؤدي دور الدولة بالنسبة للمجتمع الشيعي، حيث وفر الأمن وفرص العمل والخدمات الاجتماعية؛ ومع تراجع دوره اليوم، لا بدّ من توفير مسارات بديلة تُمكّن الشيعة من المشاركة في الحياة السياسية والاقتصادية للبلد.
يتعيّن على الحكومات اللبنانية والسورية والعراقية -وبمساندة الولايات المتحدة وجيرانها العرب- توفير وظائف الطبقة الوسطى للشيعة في القطاع الخاص، بغية الحدّ من اعتمادهم على الوظائف الحكومية التي تهيمن عليها الجماعات المتشددة. ثمة طبقات شيعية وسطى في لبنان والعراق جاهزة لاستثمار الفرص الاقتصادية التي تتصورها الولايات المتحدة وحلفاؤها في الخليج للمنطقة بعد انتهاء العمليات العسكرية الإسرائيلية. وفي حال غياب وسائل للمشاركة الاقتصادية، قد يجد الشباب أنفسهم مدفوعين مجدداً نحو التشدد والعمل المسلّح.
بينما تستثمر المملكة العربية السعودية ودول خليجية أخرى لتعزيز قيام حكومات قوية ومركزية في لبنان وسورية قادرة على مقاومة النفوذ الإيراني، ينبغي ألّا تسمح لهذه الجهود بأن تعرقل مسار التطبيع مع إيران. فقد أسهم التطبيع في الحفاظ على استقرار الخليج بينما كان باقي الشرق الأوسط يغرق في الحروب. ولضمان استمرار هذا الاستقرار، يتعين على الدول العربية أن تقرن خطط بناء الدولة برؤية اقتصادية تتيح مستقبلاً أيضاً للمناطق ذات الكثافة الشيعية في لبنان والعراق. كما يجب على السعودية والإمارات التأكد من صمود اتفاقات وقف إطلاق النار الحالية مع الحوثيين، ومواصلة التقدم الدبلوماسي نحو إنهاء الحرب الأهلية في اليمن نهائياً. ولمنع عودة إيران إلى لعب دور المخرّب الإقليمي، ينبغي التخلي عن العقلية التي ترى في الشيعة عبر المنطقة مجرّد توابع لإيران، والتعامل معهم باعتبارهم مواطنين متساوين في الحقوق.
إعادة الإعمار تحتاج إلى مصالحة
إذا ما أرادت الولايات المتحدة، من جهتها، إنهاء الصراع في الشرق الأوسط، ورؤية عراق يزدهر بعيداً عن السيطرة الإيرانية، فعليها أيضاً أن تدمج الجماعات الشيعية في البنى الوطنية والإقليمية التي تتصورها. ويعني ذلك في لبنان أن يقترن جهد نزع سلاح "حزب الله" بخطة واضحة لإعادة إعمار المناطق ذات الغالبية الشيعية ومنح الشيعة تمثيلاً سياسياً فعلياً. كما يجب على الولايات المتحدة أن تبذل كل ما في وسعها للحفاظ على وقف إطلاق النار بين "حزب الله" وإسرائيل، لأن الشيعة اللبنانيين سيقاتلون بلا شك أي غزو أو احتلال إسرائيلي، تماماً كما فعلوا بين العامين 1982 و2000. وسوف يمنح استئناف المقاومة لما تبقّى من "المحور" حياة جديدة.
يتعيّن على واشنطن أن تدعم الجهود التي تبذلها الدول العربية لتطبيع العلاقات مع إيران، وهو ما يعني التحدّث مباشرة إلى طهران. على النقيض مما يبدو أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب يفترضه، لا تشعر إيران بأنها هُزمت بعد حرب الاثني عشر يومًا في حزيران (يونيو). وتعتقد طهران أنّ الصواريخ التي أطلقتها على إسرائيل ألحقت ضرراً كافياً لجعل كلٍّ من إسرائيل والولايات المتحدة تفكّر مليًا قبل الإقدام على جولة قتال جديدة. وقد أصبح واضحاً أيضاً أن تلك الضربات لم تُدمّر بالكامل قدرات إيران النووية ولا طموحاتها في هذا المجال.
يتوقف استقرار المنطقة على انخراط إيران دبلوماسياً واقتصادياً مع العالم العربي، لكن الدول العربية تتحفّظ على منح طهران دوراً إقليمياً أكبر في ظل احتمال تحوّلها إلى قوة نووية. وتستمر أي عودة للعلاقات الدبلوماسية مع البحرين أو توسيعٍ للروابط الاقتصادية مع دول خليجية أخرى في أن تكون معلقة على شرط تقدّم إيران في المحادثات النووية. ولذلك، سوف تجد واشنطن نفسها مضطرة، عاجلاً لا آجلاً، إلى إعادة تركيز جهودها على التفاوض بشأن إبرام اتفاق نووي مع طهران.
لن يجلب الإبقاء على المشرق مُفتّتاً الاستقرار للشرق الأوسط. ينبغي دمج المجتمعات الشيعية التي شكّلت في السابق الركيزة الأساسية لـ"محور المقاومة" في الحياة السياسية والاجتماعية للمنطقة. كما ينبغي أن تدرك إيران أنّ بوسعها جني مكاسب أكبر من خلال الانخراط الدبلوماسي والاقتصادي، وليس باستئناف جهودها العسكرية المزعزِعة للاستقرار. وعلى الرغم من أنّ الجماعات الشيعية قد أُضعِفت، فإنّ السعي إلى إبقائها مُهمَّشة من خلال إقصائها من السياسة لن يؤدي إلا إلى جعلها فريسة لأي محاولات إيرانية مستقبلية لإعادة بناء شبكتها من الوكلاء -وأن يهدد أي رؤية أوسع للسلام الإقليمي.
 
*ماريا فانتابيي Maria Fantappie: رئيسة برنامج البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط وأفريقيا في "المعهد الإيطالي للشؤون الدولية" في روما.
*ولي نصر Vali Nasr: أستاذ مجيد خضوري للعلاقات الدولية ودراسات الشرق الأوسط في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز، ومؤلف كتاب "استراتيجية إيران الكبرى: تاريخ سياسي".
*نشر هذا المقال تحت عنوان: What Comes After the Axis of Resistance? The Abiding Power of Sectarianism in the Middle East