الغد
تعرض الكثير من المواقع الألكترونية الغربية مع مقالاتها المكتوبة خيار الاستماع إلى النص بدلا من قراءته. وفي مواقع دور نشر الكتب العالمية أيضا، ثمة نفس الخيار: الاستماع إلى الكتاب. ويتبين لدى التفقّد أن لدينا الكثير من الكتب العربية المسجلة صوتياً، والتي يمكن سماعها بدورها.
للمعتادين على القراءة، يبدو خيار الاستماع غريبا. فمدمنو القراءة يتحدثون بعاطفة أصيلة عن ملمس الورق، ورائحته، وتلك العلاقة التي تنشأ بين القارئ وكتابه. وقد جربت سماع بعض الكتب العربية المتاحة مسجلة، فوجدت بعض الأشياء.
في بعض الكتب المسجلة، كان الأشخاص الذين يقرأون النصوص سيئين في مهارة القراءة الجهرية، فأخطأوا في حركات الإعراب وشوهوا النص ومعانيه. وفي أحيان أخرى، لم يكن صوت القارئ من النوع الذي قد يرتاح إليه المرء ويود سماعه، أو أنه تلاه بوتيرة واحدة بلا نَبر ولا انفعال، فسطَّح المعنى وجعل المحتوى رتيبا مملا. وشعرت لدى الاستماع بأن الذي يتلو النص يملي علي إحساسه هو به ويصادر حريتي في تخيل الحاكي الذي ينشأ غالبا من شروطي في التفاعل مع النص.
يتحدث البعض أيضا عن خلو النص المسموع من علامات الترقيم التي تخدم المعنى. لكنهم يتحدثون أيضا عن الأشخاص الذين يخدمهم الكتاب المسموع، وبشكل خاص المكفوفين أو الذين يعانون من اضطراب عسر القراءة. ويشار أيضا إلى إمكانية الاستماع إلى كتاب بينما يقود المرء سيارته أو يعمل في شيء، بمعنى توزيع الانتباه الذي يقلل حتما من التركيز.
بالنسبة لنا، جيل ما قبل التكنولوجيا الفائقة، كان تعلم مهارات الاتصال الأساسية الأربع: القراءة والكتابة والتحدث والاستماع، مهمة كلها معا. وقد يبرع المرء في واحدة أكثر من الأخرى، لكن إتقانها كلها بدرجة معقولة ضروري، عمليا ومعنويا. ثم كنا شاهدين على إخلاء مهارة الكتابة بالقلم على الورق مكانها للوحة مفاتيح الحاسوب فأزرار الهاتف النقال. وربما نشهد الآن على انسحاب مهارة القراءة لمصلحة الاستماع.
ذكرني الموضوع بتجربة قديمة نسبيا مع النص المسموع، حين جلبت لأبنائي الصغار في ذلك الحين شريطا مسجلا “كاسيت” يحكي فيه الصديق المسرحي المبدع غنام غنام القصة التراثية المعروفة “نُص نصيص”. ومع أن ذلك كان قبل أكثر من عقدين، فإن الأولاد يتذكرون ذلك الشريط بحنين. ولدى التأمل، فإن حكايات الجدات والأمهات التي كانت تختتم أيامنا قبل النوم، لم يكن من السهل تسجيلها في نص مكتوب. ورونقها أنها تروى باللغة المحكية بحيث ستبدو الكلمات العامية على الورق غريبة. كما أنها تروى بطريقة مسرحية بطريقة ما، ولها ارتباط حتمي بلهجة الأم أو الجدة والدفق العاطفي المصاحب. كما أنها تضيف إلى مخيلة الصغار الذين لم يتعلموا بعد مهارة القراءة، وتحفظ في الطريق تراثا شفهياً متواترا يبدو الآن أنه ينقطع.
بالمثل، في وقت يشهد تراجعا عاما في القراءة وانشغال الأجيال العربية الجديدة المفرط بوسائل التواصل الاجتماعية، قد يكون من المفيد إذا استمع الناس قبل النوم إلى كتاب، سواء كان رواية أو نصا تاريخيا أو نظريا. وقد يرى أصدقاء الكتب المطبوعة في هذا تنازلا عن كثير من الأشياء كما يعرفونها، لكنّ التنازل يظل خيارا مقبولا أكثر من هجر الكتب جملة وتفصيلا.
ولكن، إذا كان اتجاه الكتاب المسموع يقدم بديلا يفرض نفسه عالميا على ما يبدو، فإن ذلك يرتب عملا على المشتغلين في هذه الصنعة الجديدة. ويقول عالم النفس، دانييل ولينغهام، الذي يبحث في آليات القراءة في العقل: “بينما يصبح الشكل المسموع أكثر شعبية، سوف يكتب المؤلفون مزيدا من الأعمال من النوع الذي يقصد منه أن يكون مسموعا”. وهذا يضيف عبئا جديدا إلى عمل المؤلف. كما سيضطر الناشر إلى البحث عن أشخاص مؤهلين لأداء وظيفة قراءة النص. ومن البديهي أن يكون مزاولو هذه المهنة الجديدة مميزين لغوياً وقادرين على استبطان النص وفهمه لتلاوته بطريقة غير آلية.
قد يفكر المرء في الفارق بين الاستماع إلى أشعار محمود درويش أو نزار قباني بصوتيهما وبين قراءة قصائدهما. ولكن، هل إذا تلا أحد آخر هذه الأشعار فإنه سيصنع انطباعات مشابهة؟ عموماً تبقى مسألة القراءة والاستماع مفتوحة على الاقتراح، وربما تصبح محلاً لمزيد من الانتباه في القريب.