الغد
بالنسبة لنا في الأردن، نحن نتعامل مع تطورات تم التحذير منها قبل وقوعها، وجميعنا نتذكر المعادلة التي وضعها جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين منذ عدة سنوات، وقبل بضعة أسابيع من تفجر الصراع يوم السابع من أكتوبر الماضي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة وفي كل المباحثات التي أجراها مع قادة الدول العربية والأجنبية، وأكد عليها في خضم نارها المشتعلة في غزة والضفة الغربية وعلى الحدود الشمالية مع لبنان خلال القمة العربية الإسلامية في الرياض، تلك المعادلة القائمة على أن استمرار إسرائيل في تحديها لقرارات الشرعية الدولية بشأن حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة على أرضه، وممارساتها الاستيطانية والتهويدية والإجرامية اليومية ستؤدي حتما إلى انفجار الأوضاع ، مع احتمال تدحرجها نحو حرب إقليمية وحتى عالمية.
إلى ما قبل السابع من أكتوبر كان جلالة الملك يخاطب دول العالم وخاصة الإدارة الأميركية وحلفائها الأوروبيين على خلفية الفكرة السائدة حول شرق أوسط جديد يمكن أن تكون فيه إسرائيل ضمن معادلة التوازنات الإقليمية شريكا في مشروعات التعاون الاقتصادي متعدد الأطراف، والذي تم في إطاره مسلسل التطبيع بينها وبين عدد من الدول العربية، فكان يؤكد بشكل قاطع أنه لا يمكن تحقيق أي تقدم على هذا الصعيد بالالتفاف على تلك الحقوق، وأن حل الدولتين، أي الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران عام 1967، بعاصمتها القدس هو الحل الأمثل الذي يمكن الحديث بعد تحقيقة عن إمكانية صياغة رؤية لشرق أوسط جديد أو مختلف!
ورغما عن كل هذا الوضوح في شرح تلك المعادلة كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يتحدث عن الأخبار السارة، ويشرح كيف سيكون مستقبل المنطقة، وكيف ستكون إسرائيل مركز الاستقطاب فيها، والآن وبعد أن رأى العالم كله حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، وعمليات القتل والاعتقال والتعذيب في مدن الضفة الغربية هل يمكن الحديث مرة أخرى عن نقطة التقاء من أي نوع بين دول المنطقة وإسرائيل؟!
من المنطقي أن يعيد بلد مثل الأردن لا يفصله أي شيء عن قضية الشعب الفلسطيني تقييم الموقف على ضوء تلك التطورات الكارثية، وعلى إثر التلميح بتهجير الفلسطينيين إلى مصر والأردن، وضمن عملية التقييم هذه تمت إحالة جميع الاتفاقيات الموقعة بيننا وبين إسرائيل إلى اللجنة القانونية في مجلس النواب لإعادة النظر فيها، كذلك جاء تصريح نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية وشؤون المغتربين حول عدم إمكانية جلوس وزير أردني إلى جانب وزير إسرائيلي لتوقيع اتفاقية الطاقة والمياه أو أي اتفاقية غيرها أقرب ما يكون بخلاصة لتقييم فوري مبني على أن الجرائم التي ترتكبها إسرائيل بأبشع ما عرفه التاريخ الحديث تقف الآن كحد فاصل بين الممكن والمستحيل، وأن الوضع ما بعد غزة بحاجة إلى مراجعة شاملة وربما حاسمة.
عملية التقييم وإعادة التقييم لا بد أن تستند حتما إلى موقف قوي، وقدرة الأردن على القيام بعمليات على هذا المستوى من التفكير الإستراتيجي لا تأتي عبثا، وإنما هي مرتبطة أساسا بفكر جلالة الملك، ونظرته الدقيقة للواقع، ولاحتمالات المستقبل القريب والبعيد، بما في ذلك التحديات والمخاطر التي يمكن أن يتعرض لها الأردن، وكيفية مواجهتها أو التعامل معها دون هامش لو صغير للخطأ.
نحن لا نخدع أنفسنا أبدا، نحن على يقين بأن موقف الأردن قوي ومحسوب بدقة تامة، وأنه في معايير التوازنات الإقليمية قد مارس ويمارس دورا فاعلا وضاغطا ليس من أجل وقف العدوان الإسرائيلي على غزة، وايصال المساعدات وغير ذلك من العوامل الإنسانية الأخرى وحسب، بل من أجل المراجعة الكبرى التي سيتم على أساسها وضع الأمور في نصابها، وفي اعتقادي أننا بدأنا نعد لتلك المرحلة ضمن عملية إعادة تقييم شاملة للموقف بكل أبعاده ما ظهر منه حتى الآن، وما لم يظهر بعد!