عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    22-Oct-2019

كركبة الأفكار وتقييفها* رمزي الغزوي
الدستور - 
قلما تخلو بيوتنا من مخزن يكون مستقراً ومقاماً لكل ما هب ودب، حتى ولو دخل البيت على سبيل الاستعمال لمرة واحدة، أو أصابه عجز دائم أقعده عن مهمته: فشاكوش مكسور الرأس لا يرمى، بعد أن أصبح عاجزاً عن الدق، بل يحال إلى الاستيداع، بحجة أن سيأتي عليه حين ويستفاد منه: أي (حوينه عليه).
وهكذا مع باقي الكراكيش والكراريب، فقد تجد مسماراً مطعوجاً، وقلم حبر لفظ أخر خطوطه منذ سنوات، وعلبة دهان مبقورة البطن، كان يفترض أن تتحول إلى أصاص زريعة، لكن الصدأ حرمها من هذه المهمة، فظلت في الحفظ والصون، فربما يأتي علها حين ويستفاد منها: حوينه عليها.
وخزائن الثياب يلازمها التلبك المعوي في غالبية بيوتنا؛ فعقليتنا التجميعية تأبى أن تفرط بشيء، حتى لو بهت وبار لونه، فلا نستغني عنه ونرميه، فلدينا شبه قناعة متجذرة، فحواها أن لكل شيء حيناً سيأتي عليه، ويستفاد منه، لكننا سنكتشف متأخرين، أن ما كنزناه وحفظناه وجمعناه، ما هو إلا مزيد من الفوضى، ولا شيء إلا الفوضى.
كانت الثياب تنتقل بالتتابع العمري طويل الأمد، من والد إلى ولد. فثياب الأب الفضفاضة، التي أصابها الإعياء كان لا يُفرط بها بتاتاً، وإنما تُجرى لها عمليات (تقييف) وقص وتضييق وتخصير، لتلائم أكبر الأبناء، ثم تأخذ مسارها الطبيعي فيما بعد إلى الولد الذي يليه، ثم الذي يليه، حتى إذا ما أصبحت رقعها أكبر منها، فإنها لا تحال إلى التقاعد المتأخر، بل ستدخل طوراً جديداً في الخدمة، لتصبح ممسحة مطبخ بامتياز.
العقل العربي يفعل هذا تماما. فقد تداخلت عليه الأفكار والنظريات والتشعبات، وخالجته الآراء والشعارات الرنانة والبيانات المرقمة، وكل مهمته أنه ظل يضطلع بالجمع والتجميع والحفظ فقط، دون الاستعمال على تراب الواقع.
عقلنا (قيّيف) وخصّر وصغّر الشيء كثيرا من الأفكار، لكنه ما زال يؤمن أنه لم يحن الوقت ليقوم بمهمة التخلي عن أشياء باتت من ذكريات القرون المظلمة، ومن قمامة الحضارات البائدة: هذا العقل يكبر ويتضخم، كما تتضخم خزائن ثيابنا، دون القدرة على ارتداء شيء ما. فهل سيأتي حينٌ من الدهر نحيا فيها بفكرة على مقاسنا، تناسب واقعنا وتطلعاته وأحلامه؟!.