عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    05-Aug-2019

الحرية إلى أبعد حد - بروين حبيب

 

القدس العربي - عن أي حرية نتحدث ما دامت أجسادنا أول السجون التي نسكنها؟ نأتي من العالم الآخر ونحن معلّبون في أجساد ضيقة، وأخرى فضفاضة وأخرى مضعضعة.. نشتهي أن نكون في أجساد أجمل ولكن الأمور ليست سهلة، كما قد يعتقد البعض، فمن يأتي لا يمكن أن يعود إلى «هناك» إلاّ بعد أن يكون قد دفع الثمن غاليا، ومضي في حياة فرضت عليه بكاملها، يجهل متى ستأتي نهايتها، وقد أجبر أن يتقبل ما جُبِل عليه من شهوات ورغبات ونزوات، وقد يتمكن من قمع بعضها داخله، لكن من الصعوبة أن يفلت من الرغبة في الحياة، سيقاتل من أجلها، سيسفك الدماء، ويمارس أحقر الأفعال ليبقى على قيد الحياة..
سخافة هذا الأمر قد لن نشعر بها إلاّ في اللحظات الأخيرة التي تسبق الموت، لكن في خضم الحياة، نكون حاملين أسلحتنا ونخوض الحرب التي أوجدنا من أجلها.
فخ الجسد قرأت عنه ذات يوم في كتاب فلسفي جميل لمنى فياض، صدر عن شركة رياض الريس للكتب والنشر، كتاب لولا الصدفة المحضة لما قرأته، يأخذنا في رحلة الخلق العجيبة، التي تشرح جوهر المكوّن الإنساني في كل تناقضاته، من منظور فلسفي سيكولوجي سوسيولوجي أنثروبولوجي ، قلّما نجده مبسطا بهذه الطريقة في المنشورات العربية .
نصبح رهائن الجسد ومن هذا المنطلق نحن مقيدون إلى الأبد. أمّا مفهوم الحرية فسوف يظل نسبيا، نسبيا أيضا إلى الأبد، طالما نحن عاجزون عن خلع أجسادنا، والسفر بدونها ثم العودة إليها متى ما نشاء.
أنا حرة في أن أخرج من البيت، لكنني لست حرة في أن أدخل كل الأماكن، أنا حرة في ارتداء النقاب، لكنني لست حرة في ارتداء المايوه، يرتبط مفهوم الحرية بالجماعة والمكان والزمان والتشريعات البشرية المتنوعة وحتى بقوانين الغاب. يستحيل أن نطلق العنان لأجسادنا في أوساط لا ننتمي إليها، إذ أن الحرص وليد الخوف من كل ما يتهدّد الجسد، ونحن حسب هذا الأمر الصريح لا ندري هل أجسادنا ملك لنا أم أننا ملك لها؟ في مقال سابق تحدثت عن الحرية من منطلق أنها فعل يمضي إلى أقاصي الرغبة، وقد ناقشته من حيث أنواع التجريب التي أخضعت له. وقد توصلت معكم إلى أن الحرية ليست نفسها في نظر السياسي كما عند المثقف، وليست نفسها عند رجل العلم كما عند رجل الاقتصاد، فحيثما يكون الأفق الحر مطلوبا، نجد من يحاصر ذلك الأفق خوفا من زحزحة كيانه والإخلال بتوازنه.
ومع هذا بإمكاننا أن نخلص لمفهوم مشترك، وهو أن ما نعنيه بالحرية هو تخفيف القيود التي تكبل الإنسان، ولكن بشروط، وكأننا نعيد إلى الأذهان تلك المقولة القديمة ـ أو القاعدة التي خرجت بها الفلسفة التنويرية حول مفهوم الحرية – التي تقول «حريتك تنتهي حيث تبدأ حرية الآخرين» ولكن بشكل أكثر حدّة.
تُرسَم الحرية بخطوط متفق عليها على أرض الله، وهي بذلك تحدد الممنوع والمباح، وأي تخطٍّ للممنوع يبيح إعلان الحرب على الآخر. الحرية ليست بيضاء، وليست غصن زيتون مسالم، إنها أسلحة وجيوش وعصابات وكثير من الدماء، إذ لا يمكن اقتلاع هذه «الحرية» بسهولة كما تُقطف الفاكهة الطازجة. ولطالما تغنّى بها الشعراء مقترنة بالدماء وقوافل الشهداء، مع كثير من الفخر والاعتزاز، بكل ذلك المسرح الدموي الذي يسبق لحظة النصر، طبعا إن وجدت حقا تلك اللحظة.
 
مفهوم الحرية في زمن مواقع التواصل الاجتماعي أصبح محنة كبيرة لدى المستخدمين، فكلما اتسعت دائرة الضوء التي يتعرض لها الشخص، ضاقت حريته، وتحوّلت حياته إلى جحيم.
 
في الأدب والشعر والمسرح وحتى في نشرات الأخبار، الموت قرين لهذه الحرية التي لا ترضى إلا بالتهام الأرواح، قبل أن تمنح بركتها لمن ناضل من أجلها. ينحرف المعنى كثيرا حين تصبح الحرية غاية تبرر الوسيلة، وحين تخرج عن نطاقها الإنساني في احترام الآخر، فردا أو جماعة، أو وطنا، وهذا يعيد إلى أذهاننا أهم الحملات الاستعمارية التي طوقت شعوبا بأراضيهم وممتلكاتهم، باسم تحريرهم من القمع والديكتاتوريات الحاكمة، وتلك كانت أقسى وأخطر المعاهدات تاريخيا، إذ قايضت الحرية بالسلطة، من وجهة النظر الدلالية تُسَنُّ مجموعة من القيود أمام قابلية تعديلها، أو جعلها ممكنة الاختراق للتصرف وفق نطاق ضيق، لا يعطي الصلاحيات الكاملة للطرف المتنازل عن السلطة.
يمكننا إذن عبر مسحٍ ميتافيزيقي وآخر اجتماعي سياسي للموضوع، أن نُكَوّن نظرة شاملة حول مقصدنا، ولو بشكل ناقص، لكنه سيمثل حتما تسهيلا لتعزيز قراءته والخروج باستنتاجات جديدة، تعيد الإنسان إلى عقلانيته، أو لنقل إلى فطرته المسالمة، والتوغُّل في الذات لتحريرها قبل الدخول في معارك دامية، من أجل مفهوم فضفاض صعب التحقق على المستوى الاجتماعي السياسي .
متى نشعر بالحرية إذن؟
يعتقد أغلبنا أن حريته مرهونة بعدم تدخل أحد في أموره الشخصية، كما يعتقد الكاتب أو الصحافي، أن حريته تتحقق حين تُحترم كلمته، ولا تبتر، إلى غير ذلك من تفسيرات مرتبطة بالحياة الشخصية أو المهنة أو غيرها.. لكنني أعتقد جازمة أن مفهوم الحرية في زمن مواقع التواصل الاجتماعي أصبح محنة كبيرة لدى المستخدمين، فكلما اتسعت دائرة الضوء التي يتعرض لها الشخص، ضاقت حريته، وتحوّلت حياته إلى جحيم. والغريب أن دائرة الضوء تلك هي التي تحدد مساحة نجاحه، إذ ترفع أرقام المتابعين أسهمه في عالم الشهرة والعرض والطلب، بحيث يرضخ هذا «الشهير» للقواعد التي يفرضها عليه متابعوه، فيغير في شكله وطريقة عيشه، بحيث قد يصبح ممثلا بارعا، يمثل الأدوار المطلوبة منه أكثر مما يعيش حياته الحقيقية، وهذا في حد ذاته نوع من الإرهاب النفسي الذي يتعرّض له ويسلب منه أدنى شعور بالراحة والطمأنينة .
تحت الضوء أيضا تجتازنا الآراء المُنَكِّلة بنا وبآبائنا وأمهاتنا، ولا من قدرة لنا على ملاحقة المئات قضائيا، أو على الأقل إغلاق منابرهم التي ينفثون منها سمومهم على من يخالفهم الرأي. نحن نعيش زمنا يشهد على صراع الحريات نفسها في ما بينها، رغم أننا أفضل حالا من أزمان مضت من حيث الحريات الفردية التي ننعم بها. فلماذا هذا الجنون أمن أجل مزيد من الانتشار؟ ألا تكفينا حرية التفكير وحرية الحلم مقارنة مع حرية المأكل والمشرب والملبس، التي عادة ما تكون هدفا لأعــــداء الحرية، ألا تكفينا حرياتنا الصغيرة، في النوم واليقظة، وترتيب الذكريات، وحب من نحب وكراهية من نكره، في ممارسة هواياتنا السرية، من كتابة اليوميات إلى كتابة الشعر والحكايات…
نعم مساحة الحرية ضيقة، لكنها تناسب صغر هذا الكائن الذي يوسم بـ«الإنسان»، فهو ليس بحاجة لحرية بحجم مجرّة، هو بحاجة لمقدار منها فقط تحت ظل الحب، فطالما كان الحب صحيحا، توفرت الحريات بدون قيود …
 
٭ شاعرة وإعلامية من البحرين