عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    17-Nov-2025

"اللي باقي منك".. سردية فلسطينية عابرة للأجيال بين المنفى والهوية

 الغد-إسراء الردايدة

 يقدم فيلم "اللي باقي منك" للمخرجة الأردنية - الفلسطينية شيرين دعيبس منعطفا جماليا وسياسيا في مسيرتها، ويعيد وضعها في قلب النقاش حول دور السينما العربية في سرد الذاكرة الفلسطينية وتمثيل واقعها تحت الاحتلال.
 
 
 
يأتي فيلمها هذا بوصفه محاولة لتوسيع أفق الحكاية التي عرفتها دعيبس في أفلامها السابقة، لكن بجرأة أكبر واستدعاء أعمق لزمن يمتد عبر ثلاثة أجيال. اختير الفيلم لتمثيل الأردن في سباق الأوسكار 2026 عن فئة أفضل فيلم دولي، وحظي بدعم لافت مع انضمام خافيير بارديم ومارك رُفالو كمنتجين منفذين، في مؤشر على ثقل السردية الفلسطينية عالميا عندما تُروى بصيغة إنسانية متماسكة.
 
 
تنطلق دراما الفيلم من تاريخ شخصي - جمعي لعائلة فلسطينية تعيش أثر النكبة وتحولات الصراع حتى الزمن الحاضر، وهو خط سردي يتناغم مع ثيمات لطالما شكلت قلب تجربة دعيبس: المنفى، الهوية، الذاكرة، والبحث عن مكان آمن داخل عالم مضطرب. غير أن هذا العمل تحديدا يفتح الباب للتحول في أسلوبها من "أمريكا" (2009) الذي قدم مقاربة للهجرة والاغتراب، وصولا إلى "ماي في الصيف" (2013) الذي ركز على الانقسام الداخلي والبحث الفردي عن المعنى.
كما يتيح الفيلم فرصة لمساءلة جانب ظل حاضرا في أعمالها: اللغة. لطالما لوحظت ركاكة لهجة دعيبس العربية عند تمثيلها أو في بعض حوارات أفلامها، ما يجعل من هذا العمل مساحة لتقييم قدرتها على توظيف لغة أكثر اتساقا مع سياق الحكاية وشخصياتها.
 
 
ملامح الأسلوب السردي المبكر عند شيرين دعيبس
تميزت دعيبس منذ عملها الأول "أمريكا" بقدرة واضحة على إدخال البعد السياسي في سياق يومي لا يعتمد على الخطابية، لكن هذا الخيار جاء أحيانا على حساب تعميق التوترات السياسية نفسها. في "أمريكا" مثلا، يطرح الصدام الثقافي كمسألة فردية أكثر منه امتدادا لبنية سياسية أشمل، ما يمنح الفيلم خفة في التناول، لكنه يحد من إمكاناته كعمل يتعامل مع تجربة مهاجر فلسطيني في مرحلة ما بعد 11 سبتمبر. قوة الفيلم تمثلت في رسم العلاقات داخل العائلة، بينما بقيت الخلفية السياسية مؤطرة بتلميحات لا تُطوّر دراميا إلى النهاية.
 
 
في "مي في الصيف"، تنتقل دعيبس إلى معالجة الازدواجية الثقافية من زاوية أكثر تعقيدا، إلا أن الفيلم يعيد إنتاج انقسام الهوية بوصفه أزمة شخصية، مع أن السياق السياسي حاضر بصريا وصوتيا (مثل مشاهد البحر الميت والطائرات المقاتلة). ورغم أن هذه الإشارات تعطي طبقة إضافية للحدث، إلا أنها تبقى أقرب إلى تعليق بصري منها إلى اندماج عضوي في البنية الدرامية. في المقابل، ينجح الفيلم في تفكيك العلاقات العائلية وتباينات الدين والتحرر الاجتماعي، لكنه لا يدفع البعد السياسي إلى منطقة اشتباك أعمق.
 
 
على مستوى الهوية، قدمت دعيبس في الفيلمين معا صورة لشخصيات غير مستقرة انتمائيا، لكنها حولت الاغتراب إلى محور نفسي أكثر منه سياسي، ما جعل معالجة المنفى تتخذ طابعا فرديا محدودا. هذه المقاربة تكشف عن اتجاهها الدائم نحو السينما الشخصية، لكنها تضيق مساحة التحليل البنيوي للصراع والهجرة.
 
 
"اللي باقي منك".. من السرد الفردي إلى الملحمة السياسية
مع فيلم "اللي باقي منك" (2025)، تدخل دعيبس مرحلة جديدة من مسيرتها، تتميز باتساع النطاقين الزمني والجغرافي للسرد، وكذلك بجرأة أكبر في تناول الثيمات السياسية بشكل مباشر. تقدم دعيبس هنا ملحمة عائلية شاملة تمتد لسبعة عقود، تروي فيها حكاية عائلة فلسطينية منذ تهجير الجد إثر نكبة 1948 مرورا بالانتفاضات ومعايشة الاحتلال، وصولا إلى جيل الحفيد الشاب الذي يواجه الجنود الإسرائيليين في الزمن الراهن. 
 
 
تعتمد البنية السردية للفيلم على التنقل بين الأزمنة، من خلال شخصية الأم حنان (التي تؤديها دعيبس نفسها) والتي تقوم مقام الراوية لأحداث الماضي بهدف تفسير مأساة الحاضر.
 
 
ولعل أبرز تجلّ لهذا الأسلوب ما ورد في مفتتح الفيلم على لسان حنان: "كي تفهم ما حدث لابني، عليك أن تفهم ما حدث لجدّه". تختزل هذه العبارة رؤية دعيبس الفنية في هذا العمل، حيث تربط مصير الجيل الجديد بجراح الجيل السابق لتؤكد أن معاناة الحاضر وليدة تراكم تاريخي طويل. 
 
 
في هذا الفيلم، يصر السرد على وضع كل حدث في سياقه الحقيقي؛ فصور الاحتجاج أو العنف لا تُقدم كمشاهد معزولة، بل يتم تتبع حكاية ما وراء الصورة وإعادة الإنسانية للتاريخ الفلسطيني الذي طالما عانى من التعميم والتجريد. على العكس من نهجها السابق في التلميح والتضمين، نجد دعيبس هنا تواجه القضية الفلسطينية وهموم الاحتلال بصورة صريحة وصادمة. 
 
 
فهي لا تتردد في تصوير عنف الاحتلال الإسرائيلي بأبعاده النفسية والاجتماعية، مثل أحد المشاهد الذي يُجبر فيه جندي إسرائيلي أبا فلسطينيا أعزل على إهانة زوجته أمام أطفاله تحت تهديد السلاح. يقدم هذا المشهد مثالا حيا على الكيفية التي ينتهك بها الاحتلال كرامة الأفراد ويفتت الروابط الأسرية تحت وطأة القهر اليومي.
 
 
كلمة "احتلال" قد تبدو مهذبة أو مجرد مصطلح سياسي جاف، في حين أن الكثيرين في العالم لا يدركون حقيقة ما يفعله الاحتلال العسكري طويل الأمد بأرواح الناس وحياتهم. ليطرح الفيلم أسئلة جوهرية حول ماهية الاحتلال والصدمات العابرة للأجيال ومعنى المنفى وسبل الصمود والأمل في المستقبل. 
 
 
الهوية والمنفى: الخيط الخفي الذي يربط أفلام دعيبس
يمكن تتبع خيط متصل يربط أعمال دعيبس كافة؛ فشخصياتها الرئيسية غالبا ما تكون ممزقة بين ثقافات وبلدان مختلفة، تحمل أوطانها في الذاكرة والوجدان أينما حلّت. في "أمريكا"، عالجت دعيبس معاناة المهاجر الفلسطيني في مجتمع غريب والنظرة النمطية التي واجهها في المهجر الأميركي. وفي "مي في الصيف"، جسدت أزمة فتاة عربية - أميركية تبحث عن ذاتها بين وطنين ودينين، لتكتشف أن العودة إلى الجذور لا تقل تعقيدا عن الاغتراب عنها. أما في "اللي باقي منك"، فنحن أمام تجسيد أشمل لتجربة المنفى الفلسطيني الجماعية عبر الزمن: حكاية أجيال اقتُلعت من أرضها وما تزال تكافح للاحتفاظ بذاكرتها وهويتها تحت الاحتلال وفي الشتات.
 
 
تنجح دعيبس في هذه الأفلام في تجسيد شعور الاقتلاع والحنين، ورسم شخصيات تتوق إلى الانتماء وترفض الاندثار رغم كل ما تعرضت له من تهميش. ويتضح أن المنفى لدى دعيبس ليس مجرد غربة مكانية، بل هو حالة نفسية وصراع داخلي يستمر حتى عند العودة الظاهرية إلى الوطن، كما رأينا مع شخصية ماي التي عادت للأردن بجسدها لكنها ظلت معلقة بين عالمين.
 
 
اللغة في سينما دعيبس: بين العالمية والتجذر المحلي
أما اللغة والأسلوب اللغوي في أعمال دعيبس، فثمة ملاحظات تستحق الوقوف عندها. اختارت دعيبس في أفلامها الأولى أن تكون لغة الحوار الأساسية هي الإنجليزية مع إقحام بعض العبارات بالعربية عند الضرورة، مع ترجمتها على الشاشة. هذا القرار جاء انعكاسا لرغبتها في مخاطبة جمهور عالمي واسع وجعل قصصها "عالمية وقابلة للفهم على نطاق كبير"، بحسب تعبيرها.
 
 
صحيح أن هذا التوجه منح أعمالها رواجا لدى المهرجانات الغربية وأسهم في كسر حواجز الثقافة أمام المشاهد غير العربي، إلا أنه في الوقت ذاته أبعد أفلامها خطوة عن الواقع اللغوي لشخصياتها. في فيلم "مي في الصيف"، مثلا، كانت البطلات أردنيات من أصل فلسطيني تلقين تعليما غربيا، مما برر هيمنة الإنجليزية على حواراتهن إلى حد ما، وإن ظلت اللهجة العربية حين ظهرت على ألسنتهن تبدو متأثرة بلكنة أجنبية. وقد أشار بعض المشاهدين والنقاد إلى أن اللغة العربية في هذا الفيلم بدت مصطنعة أو ركيكة بعض الشيء، مما أضعف لحظات كان يفترض أن تكون أكثر عفوية وواقعية.
 
 
ويمكن تفهم هذا الضعف في ضوء خلفية دعيبس الشخصية؛ فهي مولودة في الولايات المتحدة ونشأت في أوهايو ولم تكن العربية لغتها اليومية الأساسية، بل كانت تزور وطنها الأم في العطل الصيفية فقط. انعكس ذلك النشوء بلا شك على طلاقة لهجتها العربية وثقتها في إدارة الحوار بها، سواء كمخرجة تكتب نصوصها أو كممثلة تقف أمام الكاميرا.
 
 
أما فيلمها الأخير "اللي باقي منك"، فتخطو دعيبس خطوة جريئة بتقديم جزء كبير من الحوارات باللغة العربية الفصحى والمحكية الفلسطينية، نظرا لطبيعة القصة التاريخية ومكانها. هذا منح العمل درجة أعلى من المصداقية في نظر الجمهور المحلي، لكنه أيضا سلط الضوء على التحدي اللغوي لدى دعيبس نفسها. فأداؤها لدور الأم الفلسطينية ربما افتقر إلى سلاسة اللسان المحلي في بعض المشاهد، ما جعل الحوار يبدو أقل طبيعية مقارنة بزملائها الممثلين الناطقين بالعربية بطلاقة.
 
 
ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن دعيبس اجتهدت لتجسيد شخصية عربية القلب واللسان رغم كونها آتية من خلفية اغترابية. وربما تكمن الخطوة المقبلة في تطور دعيبس المهني في التركيز على صقل الجانب اللغوي في أعمالها المستقبلية؛ وذلك عبر الاستعانة بمدققي حوار باللهجات المحلية أثناء كتابة السيناريو، أو تكثيف التدريب الصوتي لتحسين مخارج الحروف والإلقاء باللغة العربية. فإتقان اللغة على الشاشة لا يقل أهمية عن إتقان الصورة، لا سيما عندما تكون اللغة عنصرا جوهريا في مصداقية الهوية الثقافية التي يسعى الفيلم لتمثيلها. إن معالجة هذا الجانب ستكمل دائرة تميز دعيبس، وتزيل آخر العقبات بين أعمالها وبين الجمهور العربي الذي يتوق لرؤية قصصه بلغته الأم بسلاسة وأمانة.