عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    21-Jul-2018

بدأ الدرس «الفرنسي» يا عبقري «هلسنكي» *مالك التريكي

 القدس العربي-يبدو المشهدان في هلسنكي وجوهانسبرغ متباعدين، ولكنهما في حقيقة الأمر متكاملان في تصوير الوضع البائس الذي آلت إليه أمريكا. كان مشهد هلسنكي تدليلا فاضحا على سوء عواقب التقزيم الممنهج الذي ما انفكت أمريكا تمارسه ضد نفسها ومكانتها في العالم منذ أسلمت أمرها إلى رجل متميز بالإصرار على التسجيل ضد مرمى بلاده كلما تعلق الشأن بمواجهة مع روسيا أو كلام معها أو حديث عنها. فما هو التفسير؟ إذا كان هذا الرئيس لا يحترم أحدا، ولا يقيم اعتبارا للعهود والمواثيق، ولا يراعي مشاعر الشعوب ولا الحكومات، وإذا كان يقابل كرم الضيافة باللؤم والإساءة، وإذا كان يتعامل بعجرفة وجلافة مع جميع زعماء الدول… إذا كان هكذا على الدوام، فما هو السر في كل هذا اللطف وكل هذا التهذيب اللذين ينزلان عليه فجأة كلما قابل فلاديمير بوتين؟ إذا كان طبعه هو الصفاقة في جميع الحالات، فلماذا لا تتلبّسه حالة التطبّع بالدماثة إلا في حضرة الزعيم الروسي؟ 

سواء تم العثور على أدلة في المستقبل القريب أو البعيد أم لم يتم، لا تفسير حتى الآن إلا ما يسعف به المنطق (استنادا إلى ما هو معروف من مكر موسكو وما هو مشهور من سيرة ترامب). التفسير الأرجح هو أن لروسيا على رئيس أمريكا نفوذا سببه نجاح استخباراتها في إيقاعه في شراكها بحيث صارت تملك ضده سلاحا يمكن أن تبتزّه به إذا أخذ نفسه مأخذ الجد فظن أنه قادر على مواجهة بوتين رأسا برأس. ولهذا يحاذر ترامب ويداور، ويلاطف ويجامل، ويقول إنه معجب ببوتين. ولهذا يعدّ ترامب ألمانيا عدوا: فهي تشتري الغاز من روسيا التي ليست بعدوّ! ولهذا يجد ترامب نفسه منحازا لمصالح روسيا ضد مصالح بلاده، مصدقا ما يقوله بوتين مكذبا بما تجمع عليه الاستخبارات الأمريكية. وليس تصديق كلام بوتين نابعا من مجرد أن ترامب خائف من أن يؤدي إثبات التدخل الروسي في انتخابات 2016 إلى التشكيك في شرعية فوزه بالرئاسة. صحيح أن هذا سبب خطير مخيف. ولكن السبب الحقيقي أخطر وأخوف. ولا يمكن القفز على التفسير الاستخباري هذا بذريعة أنه مجرد نظرية مؤامرة. ذلك أن الاحتراس الواجب من نظرية المؤامرة لا يعني أنه لا توجد في الواقع الفعلي مؤامرات، وخاصة في عالم الاستخبارات. ربما يعرف السر في المستقبل، وربما يبقى طي الكتمان. ولكن يستبعد أن يقع السر خارج دائرة التفسير المذكور.
أما المشهد في جوهانسبرغ، فقد كان تعليقا من الرئيس السابق على «حالة اللا ـ اتحاد» والفرقة العنصرية والدينية التي بثها الرئيس الحالي داخل بلاده. إذ من كان يصدق، حتى زمن قريب، أن سياسيا من أمريكا، التي كانت تعرف بأنها أمة تذويب الفوارق وبأنها البوتقة الوطنية الصاهرة لكل الفئات، سيضطر يوما إلى الاستشهاد بفرنسا على فضيلة التنوع وجماله وفعاليته في تحقيق النجاح؟!
قال أوباما بمناسبة إحياء مئوية مولد الزعيم الفذ نلسون مانديلا: إن تقبّل التنوع يحقق منافع عملية لأنه يضمن قدرة المجتمع على الاستفادة من حيوية الجميع ومهارات الجميع. وأضاف: «إن كنتم في شك من هذا، فلتسألوا المنتخب الفرنسي الذي فاز بكأس العالم!».
ومعروف أن فرنسا قد احتفت عند فوزها بكأس العالم أول مرة، عام 1998، بتنوع منتخبها: منتخب الباءات الثلاث: بيض (بلان) وسود (بلاك) ومغاربة (بور)، وعدّت ذلك دليلا على تطور مجتمعها نحو التعدد وتجاوز اختلافات الأصل والمنشأ في إطار التوافق الإرادي على هوية مواطنيّة مدنية تؤلف بين الجميع. أما منتخب هذا العام، فإنه أكثر تنوعا، حيث أن ثلثي اللاعبين الثلاثة والعشرين هم من السود أو المغاربة.
يا لهذا الزمن العجيب: فرنسا، بنت القارة العجوز، تلقن أمريكا، منارة العالم الجديد، درسا في التحرر من خرافة الأصول والفصول. والاتحاد الأوروبي واليابان يسمعان قرع طبول الحرب التجارية الأمريكية فيعزفان سمفونية اتفاقية كبرى للتبادل الحر. أما زعيم الحزب الشيوعي الصيني فإنه يبشّر عبقري الصفقات الأمريكي بأن لا مستقبل للانغلاق القومي وإنما كل المستقبل في الانفتاح العولمي.
 
٭ كاتب تونسي