الغد-مارك بييريني - (كارنيغي للشرق الأوسط) تشرين الأول (أكتوبر) 2023
إلى جانب المأساة التي يعيشها الأرمن، لدى الكثير من دول المنطقة والعالم مصلحة في الأحداث التي يشهدها الإقليم.
* * *
نقلت نشرات الأخبار مشاهد النزوح الجماعي اليائس للكثير من أرمن ناغورنو-كاراباخ البالغ عددهم 120.000 شخص إلى أرمينيا. ويبدو أن أذربيجان، بمؤازرة صريحة من تركيا وبدعم غير مباشر من روسيا، عازمة على محو أي أثر للوجود الأرمني في هذه المرتفعات، على الرغم من تطميناتها بعكس ذلك. ومع أن الدبلوماسيين الأميركيين والأوروبيين أصدروا البيانات، واتصلوا بالقادة، ونسّقوا مواقفهم، يشعر سكان ناغورنو-كاراباخ بأن المجتمع الدولي قد خذلهم وتخلى عنهم، وما عادوا يرون مستقبلاً لهم في أرض أجدادهم. وإلى جانب الأزمة الإنسانية والأحداث التاريخية التي شهدتها العقود الماضية، تفرز الأزمة الراهنة تأثيرات دولية كثيرة.
تبدو الخصومة بين روسيا والغرب واضحة للعيان. فموسكو تمقت ما يُعرف بـ"الثورات الملونة"، وقد وصل رئيس الوزراء نيكول باشينيان إلى سُدة الحكم في العام 2018 نتيجة إحدى هذه الثورات التي شهدتها أرمينيا في ذلك العام. تولى باشينيان منصبه بشكل سلمي بعد الانتخابات، حتى إنه فاز في الانتخابات المبكرة بعد الهزيمة العسكرية الساحقة التي تعرضت لها أرمينيا أمام أذربيجان في نهاية العام 2020. وترى موسكو أنه يمثل نسخة ناجحة من المعارض الروسي أليكسي نافالني، وبالتالي إن أي مشكلة سياسية داخلية يواجهها باشينيان هي بمثابة نبأ سارّ للكرملين.
إضافةً إلى ذلك، لن ترحب روسيا ولا تركيا على الأرجح بوساطة الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي في أزمة ناغورنو-كاراباخ الراهنة، ما يسهم في إضعاف موقف أرمينيا، على الرغم من الدعم السياسي القوي الذي تحظى به من الغرب. ولم تحقق زيارات المسؤولين الأميركيين إلى أرمينيا وأذربيجان، أو المبادرات التي أطلقها الاتحاد الأوروبي من أجل عقد اجتماع لمستشارين كبار من يريفان وباكو في بروكسل، إنجازًا يذكر حتى الآن.
في غضون ذلك، يبدو أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الحليف القوي وغير المشروط لباكو، يستفيد من إعادة انتخابه لولاية جديدة في شهر أيار (مايو) الفائت ليغتنم في الأزمة الراهنة فرصتَين تتمتعان بأهمية تاريخية. أولًا، يريد إزالة القضية الشائكة المتمثلة في الوجود الأرمني في ناغورنو-كاراباخ من جدول أعمال المجتمع الدولي. وهو يشيد بـ"الانتصار التاريخي" الذي حّققته أذربيجان باعتباره أمرا "تفتخر" به تركيا. وثانيًا، يأمل في إنشاء ممر بري بين أذربيجان ومنطقة نخجوان وتركيا، وبالتالي إعادة توحيد أذربيجان وإنشاء رابط جغرافي بين تركيا والجمهوريات الناطقة بالتركية في آسيا الوسطى. وسيكون هذا الإنجاز تجسيدًا لجهود أردوغان الرامية إلى إعادة الزخم إلى السياسة الخارجية التركية. ومن غير المستغرب أن ما يُعرف بممر زنغزور يصطدم بمعارضة أرمينيا وإيران. وإذا تم إنشاؤه، ستصبح مسألة السيطرة عليه من بين أبرز القضايا الشائكة في هذه الأزمة الإقليمية.
تبقي إسرائيل كذلك عينها على المنطقة، نظرًا إلى علاقاتها السياسية والعسكرية القوية مع أذربيجان. وقد تجلى ذلك من خلال تزويدها بطائرات مسيّرة هجومية وبيانات الأقمار الاصطناعية خلال حربها ضدّ أرمينيا في العام 2020، وقد أسهم هذان العاملان بشكل حاسم في الانتصار الذي حققته باكو آنذاك. تعد علاقة إسرائيل الدبلوماسية والعسكرية مع أذربيجان الرابط الأوثق الذي يجمعها مع دولة إسلامية حتى الآن، وتشكل بالتالي وسيلة لتعزيز موقع إسرائيل ضد إيران في حال حدوث مواجهة بين الجانبَين.
أخيرًا، بات الاتحاد الأوروبي في موقف مربك مع أذربيجان بعد توقيع مذكرة تفاهم تتعلق بمبيعات الغاز في تموز (يوليو) 2022. وقد هدف هذا الاتفاق إلى تقليص اتّكال أوروبا على الغاز الروسي، والاعتماد على باكو باعتبارها "شريكًا يُعول عليه بشكل أكبر وجديرًا بالثقة". وفي الوقت الراهن، يبدو أن هذا الاتفاق، الذي انتُقد بشدة لأنه يتعارض مع هدف الاتحاد الأوروبي المتمثل في إزالة الغاز من مزيج الطاقة الأوروبي (مع العلم بأن هذا ليس هدفًا من السهل تحقيقه على المدى القصير)، يشكل ورقة ضغط قوية قد تستخدمها أذربيجان للضغط على بروكسل.
صحيح أن المساعدات الإنسانية العاجلة لأرمن ناغورنو-كاراباخ في طريقها، إلا أن الأولوية التالية تكمن في توفير أشكال أخرى من المساعدة أيضًا. فستواجه أرمينيا صعوبةً في تأمين المساعدات والأموال اللازمة استعدادًا لوصول 60.000 شخص من أصل 120.000 أرمني من الإقليم. وتنطوي هذه المرحلة على تأمين مساكن قبل بدء فصل الشتاء، وإلحاق الأطفال بالمدارس، وتقديم الرعاية الصحية للجميع، إضافةً إلى استحداث وظائف مدرة للمداخيل. ومن شأن هذا الوضع أن يؤجج جذوة الخلافات السياسية المحلية في أرمينيا. تعد هذه المشكلة هائلة لبلدٍ بحجم أرمينيا، لكن الخبرات والأموال متوافرة في دول الغرب التي هي المزود المحتمل الوحيد لهذا النوع من المساعدات. وعلى هذا الأساس، لا بد من أن تكون هذه المسألة محور اتفاق عاجل ومفصل وقابل للتعديل بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة من جهة، والسلطات الأرمينية من جهة أخرى. لكن مهما حدث على الصعيد الدبلوماسي، تقع على عاتق القوى الغربية مسؤولية حماية اللاجئين الأرمن من صعوبات الشتاء القاسي.
على الساحة الدبلوماسية، من المستبعد جدا أن تُفرز المساعي الأميركية والأوروبية نتائج إيجابية خلال الأسابيع المقبلة. ويُعزى السبب الرئيس في ذلك إلى أن الهجوم العسكري الذي شنّته أذربيجان في 19 أيلول (سبتمبر) والمبادرة السياسية التي ترافقت معه، بمساعدة تركية وموافقة روسية، يكشفان عن الهدف المشترك لقادة الدول الثلاث، والمتمثل في منع القوى الغربية من الانخراط في تعزيز السلام والتعايش الدائمَين في جنوب القوقاز.
يبدو واضحا أن باكو ترى أن هذا "وقت الثأر" تجاه الأرمن، وأن أنقرة تريد اقتناص الفرصة لمتابعة سياستها الخارجية التي تتطلع إلى تحقيق الوحدة التركية وتأكيد دورها القيادي الإقليمي، وأن موسكو تسعى إلى إضعاف باشينيان والحفاظ على وجود روسي قوي في أرمينيا، يشمل قاعدة عسكرية وحرس حدود وبنى تحتية. علاوةً على ذلك، ترغب موسكو في التصدي لأي حضور غربي ملحوظ في البلاد. في هذا السياق، يخشى بعض المحللين من أن إرساء سلام دائم هو هدف بعيد المنال، إذ يتطلب تنفيذ اتفاق سلام دعمًا قويًا ورقابة حازمة من المجتمع الدولي، وقد يفتح غياب هذين الشرطين الباب أمام اندلاع المزيد من أعمال العنف.
تأثر الاجتماع الذي عقده المجلس الأوروبي في 6 تشرين الأول (أكتوبر) في مدينة غرناطة الإسبانية بثلاث مسائل. أولًا، إبقاء المحافظة على الدعم المقدم لأوكرانيا في وجه الاعتداءات الروسية في صلب الأولويات. وثانيًا، التوصل إلى أرضية مشتركة بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي حول أرمينيا (إذ سلطت وكالة الأنباء الحكومية الأذربيجانية الضوء على موقف المجر المعارض). وثالثًا، إعداد مزيج متوازن وفعال من السياسات يجمع بين الخطوات الإنسانية والتدابير الأشمل المتعلقة بإمدادات الغاز، وإبرام اتفاق سلام بين أرمينيا وأذربيجان والضمانات الأمنية المترافقة معه. في هذا الإطار، قد تشكل مذكرة التفاهم التي تم توقيعها في تموز (يوليو) 2022 عقبة كأداء في وجه خطوات الاتحاد الأوروبي المستقبلية.
سيتبين، في نهاية المطاف، أن أزمة إقليم ناغورنو-كاراباخ عبارة عن اختبار جديد في ميدان التنافس بين روسيا والغرب، وامتحان آخر لمصداقية الاتحاد الأوروبي في الشؤون الدولية.