عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    09-Apr-2025

تسريع إدخال واستكمال الرقمنة في الدول العربية: الطريق إلى المستقبل*حسام الحوراني

 الدستور

لم تعد الرقمنة رفاهية أو خيارًا يمكن تأجيله في سياق إدارة الدول الحديثة، بل أصبحت ضرورة ملحة ومسارًا استراتيجيًا لتحسين الأداء الحكومي وتعزيز كفاءة تقديم الخدمات. ومع تسارع التحولات الرقمية عالميًا، وتقدم أدوات الذكاء الاصطناعي، تتسع الفرصة أمام الحكومات لإحداث نقلة نوعية في طريقة تعاملها مع المواطنين، وتقديم نموذج أكثر كفاءة وشفافية في إدارة الشأن العام.
إن الرقمنة، حين تُفهم وتُطبق بشكل منهجي ومدروس، قادرة على تقليص الزمن، وتبسيط الإجراءات، وتقليل الاحتكاك المباشر بين المواطن والمؤسسة، وهو ما يُفضي إلى تقليص فرص الفساد ويُعزز الشفافية. فالتحول الرقمي لا يقتصر على تحويل الملفات الورقية إلى إلكترونية، بل يشمل إعادة تصميم العمليات الحكومية بما ينسجم مع مفاهيم الكفاءة، وسرعة الإنجاز، والتخصيص الذكي للخدمات. وحين تتكامل هذه الجهود مع قدرات الذكاء الاصطناعي، تُصبح المؤسسات قادرة على قراءة الاحتياجات الحقيقية للمواطنين والتفاعل معها في الزمن الحقيقي، بما يفتح الباب أمام شكل جديد من الحوكمة: حكومات ذكية تُبادر قبل أن تُسأل، وتُخطط بناءً على البيانات لا الحدس، وتخدم الجميع على قدم المساواة.
في الدول العربية، باتت الحاجة لتسريع وتيرة التحول الرقمي أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. فالتحديات التي تواجه المؤسسات الحكومية متعددة الأوجه؛ من بنية تحتية رقمية تحتاج إلى تحديث، إلى نقص في الكفاءات المتخصصة، ومرورًا بمقاومة التغيير التي تفرضها ثقافات تنظيمية ما زالت متمسكة بالإجراءات الورقية التقليدية. وهناك أيضًا تحديات أمنية وتقنية تتمثل في تأمين البيانات الحساسة وضمان خصوصية المستخدم، ناهيك عن التكلفة المالية المرتفعة التي تتطلب موازنات مدروسة وتمويلاً مستدامًا لضمان استمرارية المشاريع الرقمية وتحقيق أهدافها على المدى الطويل.
ورغم هذه التحديات، بدأت بعض المؤسسات الحكومية في بعض الدول العربية في تحقيق خطوات إيجابية وملموسة. في الاردن على سبيل المثال، هناك خدمات عديدة اثبتت جدواها ، من رقمنة الخدمات العقارية في دائرة الأراضي والمساحة، إلى تسهيل تقديم الإقرارات الضريبية إلكترونيًا، وتوسيع خدمات الضمان الاجتماعي عبر منصات رقمية متقدمة، وانتهاءً بجهود أمانة عمان الكبرى في رقمنة معاملاتها الى خدمات سند في الحكومة الالكترونية وغيرها الكثير. هذه النماذج الناجحة تُثبت أن الإرادة حين تتوفر، والتمويل حين يُدار بكفاءة، والقيادة حين تتحرك برؤية، يمكن أن تُثمر الرقمنة عن نتائج حقيقية يشعر بها المواطن في حياته اليومية.
ويُعد الذكاء الاصطناعي مكملًا طبيعيًا لهذا التحول، بل محفزًا مضاعفًا له. فسواء في إدارة توزيع المياه ومراقبة فاقدها، أو في الزراعة الذكية التي ترفع كفاءة الإنتاج وتقلل الهدر، أو في تحليل بيانات المرور والتنبؤ بالحوادث، أو حتى في تخصيص المحتوى التعليمي والرعاية الصحية والتشخيص الطبي، فإن الذكاء الاصطناعي يقدم أدوات يمكنها رفع مستوى الخدمات إلى آفاق غير مسبوقة. كما يمكن توظيفه في مجالات مثل السياحة الذكية، ومراقبة الموارد البيئية، وتوقع الكوارث الطبيعية، وتحسين كفاءة الطاقة، وهو ما يُسهم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة بمقاربات أكثر حداثة واستباقية.
إن الوصول إلى حكومة ذكية لا يتأتى من خلال تنفيذ مشاريع تقنية متفرقة، بل يتطلب خطة وطنية شاملة ومتكاملة في كل دولة، تقوم على رؤية واضحة، وتمويل كافٍ، وموارد بشرية مدرّبة، وأدوات قياس موضوعية لقياس الأثر الحقيقي لكل مبادرة رقمية. ويتعين أن تكون هذه الخطة مترابطة ومتناغمة مع التوجهات التنموية للدولة، وتضع الإنسان – المواطن والمقيم – في صلب أولوياتها.
ولأن النجاح في هذا المضمار لا يُقاس بعدد الخدمات الإلكترونية المُطلقة فقط، بل بمدى تفاعل الناس معها وثقتهم بها، فإن الشفافية وإتقان العمل وحسن النية في خدمة المواطن تصبح القيم الجوهرية التي لا غنى عنها لضمان فعالية هذا التحول. فالتكنولوجيا، مهما بلغت من تطور، تبقى أداة في يد من يستخدمها، ويظل جوهر التقدم مرهونًا بضمير المسؤول وإرادة الإصلاح.
إن الرقمنة ليست مجرد تحديث في الشكل، بل إعادة تشكيل للعلاقة بين الدولة ومواطنيها. وهي فرصة تاريخية أمام الدول العربية لأن يتحول إلى نموذج عربي يُحتذى في الإدارة الحديثة والشفافة. ومع توظيف الذكاء الاصطناعي بالشكل الأمثل، يمكن بناء منظومة خدمات حكومية رشيقة، ذكية، قابلة للتوسع، تُسهم في رفع جودة الحياة وتعزيز ثقة المواطن بالحكومة، وتمهّد الطريق لمستقبل أكثر ازدهارًا وكفاءة واستقرارًا. فالمستقبل لا ينتظر أحدًا. ومن يُبادر اليوم، يملك زمام الغد.