عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    03-Jul-2022

إعلام الكِبار*د. أحمد يعقوب المجدوبة

 الراي 

سُئِل أحد عمالقة مذيعي البرامج في هيئة الإذاعة البريطانية ومقدميها في التسعينيات من القرن الماضي عن سر نجاحه وتألّقه، فأجاب ببساطة: "أجعل مُهمتي الأساسية إتاحة الفرصة لضيوفي لقول ما يريدون قوله، بأقل حد من المقاطعة وأقل عدد من المداخلات."
 
أذْكُر كلام صاحبنا هذا كثيراً هذه الأيام – والذي كنت أدرّس القطعة الكاملة المأخوذ منها الاقتباس المشار إليه أعلاه لطلبتي في مادة "المهارات الشفوية" – أذكُره، بسبب ما آلت إليه حال العديد من وسائل الإعلام هذه الأيام، في العالم وعندنا.
 
على عكس ما مارَسه وافتخرَ به مذيعُ البي بي سي هذا، العديد من المذيعين اليوم، وليس كلهم بالطبع، يبذلون قصارى جهدهم لعرقلة ما أتى ضيفهم ليقوله. معظم الوقت يتحدثون أكثر مما يتحدث هو، وأحيانا يُقوِّلونه ما لا يقول: "يضعون كلماتٍ في فمه"، كما يقول المثل.
 
لا بل إن بعضهم يُمارس ممارسات قمعية تصل حد الإيذاء، تتمثل بمقاطعة الضيف مراراً وتكراراً، والقفز من نقطة إلى أخرى قبل أن تُتاح له الفرصة لإكمال فكرته، ومجادلته والاختلاف معه في كل ما يقول، وإلقاء المواعظ عليه، والاستخفاف بنقاطه، والتشكيك في كلامه وتصويره على أنه مخطئ؛ وإذا كان معه ضيف آخر، لا يألون جهداً في محاولة إثارة توترٍ بينهما يصل حد الإيذاء اللفظي، لا بل والعراك أحياناً.
 
مشاهد قد تصلح لمسرح العبث أو مسلسلٍ فكاهي، لكنها لا تُناسب الواقع، وتندرج تحت مفهوم المُضحك المُبكي، لأن لها انعكاسات سلبية على الواقع؛ فبدلاً من تثقيف المشاهد أو المستمع أو إفادته، تُربكه وتُنفّره وتُؤسّس لثقافة سوقية بعيدة كل البعد عن مبادئ الحوار الهادئ وأصول الأدب..
 
الأصل أن الاعلام حقلٌ محترف يتمتع القائمون عليه بمهنية عالية وعلم وأدب جَميّن، مثله مثل العديد من العلوم الأخرى. لا بل إن أثره قد يكون أكثر بكثير، وهو مُهمينٌ ومُتابَعٌ من الناس، في ظل "ثورة" المعلومات، التي تحوّل بعضها مع الأسف إلى "إثارة".
 
ماذا حدث للسلطة الرابعة، والتي يفترض أن تكون مبنية على الأخلاق الحميدة والأعراف الراسخة، والتي يُفترض أن تُنير الدرب للناس وأن تُزوّدهم بالموثوق والمفيد، لا أن تعمل على إثارة النعرات وإشاعة ثقافة التشكيك والإرباك وتقويض أواصر الحوار الحضاري؟
 
نُؤكد أن الصورة ليست كلّها قاتمة، كما ذكرنا أعلاه، فما زال هنالك والحمد لله، عالمياً وإقليمياً ووطنياً، إعلاميون محترفون، مثل مذيع البي بي سي المشار إليه، هَمُّهم الحقيقة وديْدَنُهم الحوار الراقي واحترام المتحدّث المُختار بعناية وتَمكينِه من قول ما يريد قوله بهدف تثقيف الناس وتوسيع مداركهم وتقديم الأفضل لهم؛ وإن تطرّقوا للتعددية والاختلاف فيفعلون ذلك بحرص وحكمة وعمق ترسيخاً لفكرتي الاختلاف والتعددية بمفهومها الصّحي والإيجابي.
 
وبعد، فلا بد للمجتمعات والدول من التعظيم من شأن الإعلام الإيجابي الموثوق المحترف البنّاء ودعمه، والتقليل إلى درجة التّصفير من الإعلام الأصفر الإشكالي السطحي السلبي الهدّام، حفاظاً على كرامة الناس وموثوقية معلوماتهم ومعارفهم وصَوناً لأمن المجتمعات.
 
وكل هذا لا يتأتّى إلا من خلال إعلام الكبار، معرفةً وقدراً وأسلوباً.