"ولأجلك باح الصخر في الجنوب".. تجربة أدبية بين الذات والوجود للمعايطة
الغد-عزيزة علي
وقّع الدكتور والكاتب الأردني مصطفى المعايطة كتابه "ولأجلك باح الصخر في الجنوب"، الصادر عن دار ابن رشيق للنشر والتوزيع.
جاء الحفل بمشاركة نخبة من الأدباء والنقاد، حيث قدم الدكتور يوسف ربابعة دراسة نقدية تناولت الجوانب الفكرية والجمالية للكتاب، الذي يجمع بين الرسائل الشخصية والتأملات الفلسفية، ليشكل إضافة نوعية إلى الأدب الاعترافي في المشهد الثقافي الأردني.
أُقيم حفل التوقيع في دائرة المكتبة الوطنية، وأداره الزميل محمد الحباشنة، حيث رأى الدكتور يوسف ربابعة أن عنوان كتاب "لأجلك باح الصخر في الجنوب" يفتتح جدلية ثنائية تسير، سواء بخيط ظاهر أو خفي، في بنية الكتاب التي تتأرجح بين الرسائل والمذكرات. وتتجلى هذه الثنائية بوضوح عند قراءة ما وراء العبارات وظلال البوح: جدلية القسوة والحنان، الصخر والحب، الجنوب وما يقابله من الشمال، وإن لم يُذكر الأخير صراحة.
وتتبدّى هذه الثنائية في قصة الحب التي اتكأ عليها الكاتب، وجعل منها مفتاحًا للتعبير عن ذاته ومشاعره، وفرصة للتصريح بما قد لا يُقال عادة. فقد جعلته التجارب السطحية مع المرأة رافضًا لأي شكل من أشكال الحب، لكنه، في لحظة فارقة، يتحوّل من صخرة صمّاء إلى قلب تنبت فيه مشاعر لينة، تمزج بين قسوة الظاهر وعمق الحب القادر على الحفر في الأعماق.
وأضاف ربابعة أن الكتاب يتكوّن من مجموعة من الرسائل والمذكرات التي كتبها المؤلف لحبيبة غائبة، وربما حاضرة دون ملامح واضحة، أو لعلها رمز يفتح الحس للتداعي والبوح. ومع ذلك، فقد اتخذت هذه الحبيبة حضورًا طاغيًا في حياته، وإن لم تكن محورًا مركزيًا كما قد يتهيأ للقارئ في بداية الرسائل، إذ تغيب حين ينسى الكاتب نفسه، وتسرقه لغة الفلسفة، والسياسة، والانحياز الفكري أيضًا.
وبيّن أن هذه الرسائل لا تقتصر على البُعد العاطفي، بل تتجاوز ذلك لتتحول إلى رحلة في تشكّل الذات عبر مسارات الحب، والفقد، والانكسار، ثم إعادة بناء النفس من جديد.
وأوضح ربابعة أن المعايطة يقدّم في كتابه عملاً أدبيًا يصنَّف ضمن "أدب الرسائل"، ويمكن إدراجه أيضًا في خانة "الأدب الاعترافي". إلا أن مضامينه وأفكاره تتجاوز حدود المكاتبات العاطفية وعبارات الغزل والتغزّل، إذ يمثّل سيرة فكرية ووجدانية تسرد تحوّلات الذات في علاقتها بالحب، والمجتمع، والوجود.
وأشار إلى أن الحب في هذا الكتاب لا يظهر كتجربة شخصية محصورة بامرأة معيّنة، ولا كقصة حب تقليدية ذات معالم واضحة من حيث البداية أو النهاية، بل يتّخذ بُعدًا وجوديًا، يُستخدم لفهم الذات والعالم. فهو القوة الناعمة الخفية التي تُطيح بصورة الرجل الجاف، المتسلّط، والجامد، وتعيد تشكيله ليغدو إنسانًا أكثر تعاطفًا ورحمة، وأكثر قدرة على التسامح والشعور المرهف.
ويبدو، بحسب ربابعة، أن الكاتب قد تجاوز مفهوم الحب في بعده العاطفي المحض، لتغدو "المحبوبة الغائبة" رمزًا لتحوّل داخلي عميق، ولإمكانية انبعاث ما بداخل الإنسان من صلابة وقسوة نحو أفق أرحب من الإنسانية والنضج العاطفي والروحي.
وأشار ربابعة إلى أن العنوان يحدّد المكان الذي "جعل الصخر يبوح"، وهو الجنوب، الذي يحمل دلالات تتجاوز كونه مجرد اتجاه جغرافي، ليغدو رمزًا غنيًا بالمعاني الثقافية والاجتماعية. ففي فضائه المتشابك، يتحوّل الجنوب إلى مسرح لصراع الفرد مع المجتمع والتقاليد.
بل يظهر الكاتب، من خلال هذا السياق، موزعًا بين تناقضات حادة؛ إذ يحمل في داخله صراعًا بين سلطة الأعراف والدين الموروث من جهة، ورغبته العميقة في الحرية وتأكيد الذات من جهة أخرى. ومن هذا التوتر تتجلّى بوضوح النزعة الفلسفية والصراع الوجودي مع الذات، حيث لا تتوقف أفكاره عند حدود العاطفة، بل تنفتح على أسئلة كبرى تتعلق بالحرية، والهوية، والموت، ومعنى أن يكون الإنسان إنسانًا.
ثم تحدّث ربابعة عن الجماليات التي يتسم بها الكتاب، مشيرًا إلى أن المؤلف كتبه "بلغة أدبية وعبارات بلاغية، تفيض بالاستعارات والصور الفنية". وأوضح أن التكرار اللافت لعبارة "أتعلمين ماذا؟"، يمنح النص إيقاعًا خاصًا، ويحوّل الرسالة من مجرد خطاب شخصي موجَّه إلى امرأة بعينها، إلى خطاب أدبي مفتوح على القارئ.
وأوضح ربابعة أنه بهذا الأسلوب، نجح الكاتب في إشراك القارئ في التجربة، بحيث لا يبقى متفرّجًا أو قارئًا خارجيًا، بل يتورط وجدانيًا مع النص، ويصبح جزءًا من عملية الاعتراف وإعادة التكوين الذاتي التي يخوضها الكاتب.
يمكن القول إن قوة الكتاب تكمن في صدقه العاطفي وجرأة مكاشفاته؛ فهو نص يعرّي الذات في لحظات ضعفها وقسوتها على حد سواء، ويعيد التفكير في علاقة الفرد بالحب، والمجتمع، والوجود. ورغم هذه القوة، فإن امتداد السرد أحيانًا، وتكرار بعض الصور والذكريات، قد يشكّل عبئًا على القارئ، لكنه يظل منسجمًا مع طبيعة البوح الاعترافي، الذي بطبيعته لا يعرف الاقتصاد في القول، بل يفيض على اللغة بما تمور به النفس من مشاعر وتداعيات.
كما أشار ربابعة إلى أبرز الثيمات الرئيسة التي جاءت في ثنايا موضوعات الكتاب، مؤكدًا أن "الحب والفقد ليسا مجرد علاقة شخصية، بل إطار لفهم الحياة وتحولاتها، والذات في صراعها الوجودي". فالكاتب يعرض حياته بوصفها تجربة يمكن التعلم منها، ويعيد من خلالها تأمل الإنسان لذاته وللعالم من حوله.
وأضاف أن من بين هذه الثيمات أيضًا المجتمع والتقاليد، حيث يظهر صراع الفرد مع الأعراف والقيود الاجتماعية بشكل واضح. كما لا تغيب الفلسفة الوجودية عن كثير من النصوص، إذ تحضر بتجلياتها المتعددة، وتتجسد في الأسئلة العميقة عن الموت، والهوية، والحرية، التي تفرض نفسها على الكاتب والقارئ معًا.
وعن جماليات النص، رأى ربابعة أنه يتميّز بـ "الصدق العاطفي"، إذ يشعر القارئ بأنه شريك حقيقي في لحظة الاعتراف. فالصور البلاغية والاستعارات تمنح النص بُعدًا رمزيًا يتجاوز حدود التجربة الفردية، ليصبح تعبيرًا عن تجربة إنسانية عامة.
وأضاف أن هذا الصدق العاطفي ينجح في جذب القارئ، وجعله مشاركًا في عملية المكاشفة، لا سيما من خلال الأسئلة العميقة وسبر أغوار النفس، وما توسوس به في اللحظات التي نعجز فيها عن إظهار حقيقتنا في أوقاتنا "العاقلة".
وأشار إلى أن من أبرز عناصر الجمال الفني استخدام التكرار، مثل عبارة "أتعلمين ماذا؟"، التي تخلق إيقاعًا خاصًا في النص، وتُحوّل الرسالة من خطاب شخصي موجَّه إلى "الآخر" إلى خطاب أدبي مفتوح على القارئ العام.
وأوضح أن الرسائل الموجّهة إلى "الحبيبة" لا تبدو، في عمقها، تواصلًا مع الآخر بقدر ما هي مكاشفات للذات، ومحاولة لفهم الداخل الشخصي من خلال الخارج العاطفي.
ومن بين الصور التي تحفر في أعماق النفس، بحسب ربابعة "يظهر الانتقال الواضح من النرجسية القاسية، ممثلة في صورة الرجل الذكوري الصلب، إلى الذات المتعاطفة التي تتعلم الضعف والرحمة بفضل الحب والفقد. فتتسع هذه الذات لتتّسع بالتعاطف مع أقل ضعف إنساني". ويُعتبر الصدق والجرأة والقدرة على التعبير عن الهشاشة الإنسانية بعمق وصراحة من مصادر القوة في النصوص، وهي صفات قد تكون صعبة على كاتب السيرة أو كتاب السير بشكل عام.
فالكتاب ليس مجرد رسائل غرامية، بل هو سيرة وجودية مكتوبة بلغة شاعرية، تضع القارئ أمام رحلة نفسية مليئة بالانكسار والنهضة، حيث يصبح الحب محورًا لفهم الذات والعالم.
ورأى ربابعة أن الكتاب ليس مجرد رسائل غرامية، بل هو سيرة وجودية مكتوبة بلغة شاعرية، تضع القارئ أمام رحلة نفسية مليئة بالانكسار والنهضة، وتجعل من الحب محورًا لفهم الذات والعالم.
ورأى ربابعة أنه يمكن الحديث عن بعض النقاط التي تشكل نظرات نقدية من الناحية الفنية، مشيرًا إلى أن النص يقوم على التداعي الحرّ، حيث تتداخل الرسائل الغرامية مع المذكرات، والسرد السيري، والتأملات الفلسفية. ويغيب البناء الروائي التقليدي (الحبكة – العقدة – الحل)، ليحلّ مكانه خطّ اعترافي متدفق يقترب من الرواية الاعترافية. وقد يُلاحظ بعض الامتداد السردي الطويل الذي يرهق القارئ أحيانًا، لكنه جزء من طبيعة النص الاعترافية التي تميل إلى البوح غير المحدود.
وفي نهاية الحفل، رحّب المؤلف بالحضور والمشاركين قائلاً: "إنها فرصة، بعيدًا عن أي شيء، نلتقي ونتحدث سويًا مع بعض". ثم قام بتوقيع الكتاب للحضور، كما قدّم دروعًا لكل من الدكتور يوسف ربابعة تكريمًا له ولموقفه من استقالته وانتصاره لنفسه والكرامة، وللمكتبة الوطنية، ولصاحب دار النشر الشاعر أحمد الصمادي.