عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    26-Mar-2021

نوال السعداوي: نسوية الموجة الثانية في انقلاب الثلاثين من يونيو

 القدس العربي-محمد سامي الكيال

أثارت وفاة الكاتبة المصرية نوال السعداوي ردود فعل شديدة التباين، كانت متوقعه في نقاش سيرة شخصية بهذه الإشكالية والأهمية، فالسعداوي، التي ناضلت لعقود طويلة في سبيل قضايا تحرر النساء في العالم العربي، وكتبت كثيراً عن العوامل شديدة التعقيد لاضطهادهن في مجتمع رأسمالي أبوي عالمثالثي، خلقت لنفسها بالتأكيد عديداً من الأعداء. إلا أن انتقادها لميلها النسوي، لم يعد مربحاً سياسياً، في عصر اندمج فيه عنوان «النسوية» بغض النظر عن دلالاته، في الأيديولوجيا السائدة عالمياً، فلم تعد كثير من الجهات توّرط نفسها بإعلان مواقف معادية لـ»النسوية» جذرياً، تماماً كما أنه من الصعب أن نجد من ينادي صراحةً بمناهضة الديمقراطية.
وربما لهذا السبب تم التركيز في انتقاد السعداوي على جانبين: الأول موقفها السلبي من الربيع العربي عموماً، وثورة يناير/كانون الثاني خصوصاً، وتأييدها لانقلاب الثلاثين من يونيو/حزيران في مصر، وإجراءاته القمعية؛ والثاني منهجها النسوي نفسه، الذي بدا للبعض عتيقاً للغاية، وربما سطحياً، في عصر «النسوية التقاطعية» وما بعدها، ومع تقدّم الموجة النسوية الرابعة وسياسات الهوية.
محاولة التنقيب في نوايا من أدانوا السعداوي، واتهامهم بالذكورية والإسلاموية ومعاداة النساء، قد لا تكون مجدية للغاية، ومن المظاهر السلبية لربط الأيديولوجيا بالحتمية الهوياتية والجسدية: معارضة السعداوي من قبل من ليسوا نساء ذكورية، وبالتالي لا يحق إلا لمن يملك درجة في هرمية الضحايا، تؤهله للكلام في قضايا النساء، أن يدلي برأيه. هكذا يتم استبعاد فئات واسعة من النقاش المجتمعي، نظراً لهويتها وميولها الجنسية، وهذا من أشد الطروحات معاداةً للديمقراطية والتواصل بين الذاتي في عصرنا، وتفكيك الحيز العام وخصخصته إلى مساحات آمنة، وكانتونات ثقافية وعرقية وجنسية. ربما كان الأكثر أهمية النظر في حجج المنتقدين نفسها، ومحاولة طرح أسئلة أكثر فائدة عن سيرة وعمل السعداوي.
اتهام السعداوي بتأييد الأنظمة القمعية، بناءً على مواقف اتخذتها بعد سن الثمانين، في عصر اضطراب اجتماعي عارم، يستلزم البحث في أعمالها ومنهجها نفسه: هل توجد في كتابات ومواقف السعداوي صلة لازمة بين انتقادها لما تراه مجتمعاً رأسمالياً أبوياً، وتأييدها لانقلاب الثلاثين من يونيو وحكم العسكر؟ وهل التيار النسوي، التي تبنّته ودافعت عنه، قائم على أسس قمعية ما، تجعله أميل لكبت الدولة للحيوية الاجتماعية، أو توجيه قضايا التحرر بشكل فوقي؟
ليست الإجابة على هذين السؤالين بسيطة للغاية، وربما كانت محاولة طرحهما، والبحث عن إجابات أولية لهما، خير تكريم للراحلة، وجعل عملها أكثر حداثة، وارتباطاً بالقضايا الاجتماعية والسياسية المعاصرة.
 
لم تستطع نسويات العالم الثالث أنفسهن، حسب هذا النقد، الخروج من التصور المُستلب للذات النسوية المتحررة، الذي أقصى كثيراً من النساء على أرض الواقع، مثل النساء المتدينات وعاملات الجنس ونساء الأقليات، وتجاهل قوتهن الاجتماعية وفعلهن الحياتي.
 
الطبيبة التي سبقت عصرها
 
قد يكون من الأفضل وضع مفردة «نسوية» بين قوسين، لدى الحديث عن الدعاوى النسوية المختلفة، واعتبارها بناءً سياسياً – اجتماعياً متعدداً، بدلاً من تصنيفها خُلُقاً أو حقيقة مطلقة، تمتلكها الضحايا في جوهر هويتهن.
لا يمكن فهم فكر وعمل السعداوي بالانفصال عن سياقهما العالمي، أي الموجة النسوية الثانية، التي ازدهرت في وقت مبكر من ستينيات القرن الماضي، وجاءت بعد موجة النسوية الأولى، في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، المطالبة بالحقوق الاجتماعية والسياسية الأساسية للنساء، وعلى رأسها حق الانتخاب. انشغلت نسويات الموجة الثانية عموماً بقضايا قانونية ومؤسساتية أكثر تفصيلاً، وبتحليل مفهوم «المرأة» نفسه، والأسس البيولوجية والثقافية والاجتماعية للفروق بين الجنسين، وعرفن بخلافاتهن الشديدة حول قضايا الطبقة والتحرر الوطني والحرية الجنسية، وضمن هذا السياق كانت السعداوي، في السياق العربي، ممثلة نموذجية لأحد أهم تيارات النسوية الثانية، أي النسوية التحررية الماركسية المعادية للإمبريالية.
إلا أن السعداوي لم تكتف بتكرار الدعاوى العامة لتيارها السياسي، فقد استطاعت، في وقت مبكر، بفضل عملها الطبي، خصوصاً بين نساء الطبقات الأدنى، استشفاف دور الممارسات الطبية السلطوية على أجساد الإناث، مثل الختان وكشوف العذرية، في صياغة الهوية النسائية والأدوار الجندرية، ما يجعلها رائدة، في السياق العربي، لاكتشاف دور السياسات الحيوية Biopolitics في صياغة الذوات وتطويع الأجساد.
هذا الوعي، الذي توصّلت إليه قبل الانتشار الواسع للأدبيات النسوية، المتأثرة بميشيل فوكو، والتي تُنسب عادة للموجة النسوية الثالثة، جعل نقدها للأبوية العربية أكثر تكثيفاً وحدة، وأشد اقتراباً من القضايا الملموسة للنساء، ما أكسبها شعبية أكبر من معظم رفيقاتها في التيارات النسوية العربية، لذلك يمكن القول إن عملها لم يكن مجرد رديف للتيارات السياسية الماركسية في المنطقة، التي جعلت قضايا النساء مسألة هامشية، ذات طابع اقتصادي بحت، وهو ما أكسب السعداوي نقّاداً عديدين من اليسار، لا يقلون عن نقّادها من اليمينيين والإسلاميين.
إلا أن المناضلة النسوية المصرية لم تستطع إحداث قطيعة كاملة مع يسار التحرر الوطني، الذي شكّل بيئتها الثقافية الأولى، واستمرت بالتعويل، رغم تحليلها المركّب لبنية الاضطهاد الأبوي، المُتَضمَّن في بنية المؤسسات وعلاقات السلطة القائمة، على دولة ما بعد الاستقلال العربية، بوصفها ضامناً لمهام التحرر الأولية: التعليم الإلزامي للجنسين؛ محاربة النفوذ الأجنبي؛ السياسات الاجتماعية والحقوق الاقتصادية الأساسية، بما فيها الحق في الغذاء والمسكن والعمل؛ التنوير عبر المؤسسات الثقافية العامة؛ والإطار القانوني المتقدم على العرف والتقليد.
 
 
 
يمكن، ببعض الاستسهال، إدانة السعداوي على تعويلها وارتباطها بدولة التحرر الوطني، وشعورها الواضح بالتهديد، عندما رأت بوادر انهيارها الكامل مع انطلاق الربيع العربي، كما يمكن اتهامها بعدم فهم التطورات الفكرية، التي سادت منذ ثمانينيات القرن الماضي، وقدمت تحليلاً أشد تعقيداً لبنية السلطة بعد الكولنيالية، إلا أن هذا النمط من النقد والإدانة يتجاهل عدداً من الأسئلة الصعبة، التي تواجه اليوم أكثر الناشطين «ثورية» واطلاعاً على المناهج الفكرية، التي ما زالت تُعتبر «جديدة» عربياً.
 
رعب الانهيارات
 
تم توجيه انتقادات متعددة للموجة النسوية الثانية عموماً من طرف عدد كبير من نسويات الموجة الثالثة، التي انطلقت آواخر ثمانينيات وبداية تسعينيات القرن الماضي، ومن أهم هذه الانتقادات اتهام جانب أساسي من النسوية الثانية باعتماد نماذج أحادية متعالية للنساء، وقضية تحررهن، تتطابق مع نموذج المرأة الغربية البيضاء، المرتبط بالإطار القانوني والمؤسساتي للدولة الحديثة، ذات الطابع الاستعماري. لم تستطع نسويات العالم الثالث أنفسهن، حسب هذا النقد، الخروج من التصور المُستلب للذات النسوية المتحررة، الذي أقصى كثيراً من النساء على أرض الواقع، مثل النساء المتدينات وعاملات الجنس ونساء الأقليات، وتجاهل قوتهن الاجتماعية وفعلهن الحياتي.
يمكن القول بهذا المنطق إن السعداوي تمسّكت بنموذجها التحرري النسائي المتعالي، المتعلّق بعملية التحديث الملتبسة لدولة التحرر الوطني، الناتجة عن الاستعمار نفسه، ما دفعها لتأييد الممارسات القمعية لهذه الدولة، في وجه ما حسبته فوضى، تُمهّد لظلامية شاملة، تطيح بالمشروع التنويري للمجتمع عموماً، وللنساء خاصةً. إلا أن هذا المنظور يسقط من حسبانه تعثّر الفعل التحرري، الخارج عن سياق دولة الاستقلال التقليدية، في صياغة قوة سياسية بديلة، تقي المجتمع من السقوط في حالة من الوحشية الشاملة، تكون النساء أولى ضحاياها؛ والأهم أنه يتسامح مع ضروب الاضطهاد المتنوّعة، التي تتعرض لها النساء في البنى الاجتماعية التقليدية، أو الهوياتية المُحدثة، باسم الخصوصية الثقافية ومناهضة المركزية الغربية، ولذلك ربما كان للسعداوي المسنّة، في آخر سني حياتها، أسئلة ومنطق تفكير، يستحق ما هو أكثر من الإدانة السهلة.
 
أعم من «التقاطعية»
 
لم تكن نسوية ماركسية مثل السعداوي غافلةً بالتأكيد عن مسائل الاستعمار والطبقة والعرق، بل ربما كان منهجها أكثر عمومية من التيار النسوي التقاطعي، الذي ساد مع الموجة النسوية الثالثة، وتسرّب كثير منه إلى الموجة الرابعة الحالية، التي تزدهر على وسائل التواصل الاجتماعي، وبدعم المنظمات غير الحكومية. اهتمت النسوية التقاطعية بتفكيك النموذج الأحادي للمرأة البورجوازية الغربية البيضاء، إلا أن هذا قادها إلى تكثير وتصليب الهويات، بدلاً من تفكيكها، وبناء هرمية شديدة التعقيد للضحايا، فتّتت الحيز العام إلى مساحات معزولة، تشغلها نساء بهويات مركبة، يتكلمن لغة غير قابلة للترجمة إلى لغة عمومية ومشتركة. لغة السعداوي حافظت دوماً على كونيتها وعقلانيتها، وأصرّت على ربط قضية تحرر النساء بتحرر المجتمع بأكمله، من كل ما اعتبرته منظومات قمعية، بدلاً من أن تجعلها حرباً، بمحصلة صفرية، بين هويات متظلّمة، لا مطالب فعلية لها إلا الاستمرار بالتظلّم، وتعجز عن بناء ائتلافات سياسية فعّالة، وإذا كانت دعواها التحررية فشلت بفهم ما تشكّله الدولة العربية من إعاقة لكل قيم التحرر والتنوير، وآمنت بنماذج نسوية أحادية، فربما لأن فكر الثائرين والنسويات، الذين خلفوا جيلها، لم يقدم بدائل يمكن وصفها بالتحررية فعلاً، نظراً لتهلهل السياق السياسي المعاصر، وبهذا لا تكون الأزمة أزمة السعداوي وحدها، بل أزمة كثير من منتقديها أيضاً.
 
باحث سوري