الدستور
«إنهم لم يتركوا لنا شيئًا نحمله إليكم سوى هذا الصوت، فهل تسمعون؟». غسان كنفاني، من رواية رجال تحت الشمس.
أبنائي وبناتي الأعزاء، يا نبض الحياة في عالمٍ أصابه الوهن،
اعتدت في مراسلاتي أن أستهلها بتحية السلام أو الدعاء لكم بالخير والعافية، غير أنني اليوم أقف عاجزًا عن هذا الاستهلال المعتاد، إذ أدرك في قرارة نفسي أنكم تفتقرون إلى السلام والأمان، وأن هذا العالم قد أخفق في منحكم أبسط حقوقكم في الحياة الكريمة.
لذا، أتوجه إليكم بكل صدقٍ وشفافية: أنتم القلب النابض والروح الباقية، وإنني لأعتذر إليكم بأعمق ما في الوجدان لعجزي عن حمايتكم وصيانتكم من هذا العدوان. أعتذر لأن كل ما قدمناه لم يتجاوز دموعًا حرى، ودعاءً صامتًا، ومساهمات مادية ضئيلة، وكتابات باهتة ضاعت في خِضَم الأحداث. أكتب إليكم من قلب حياة مترفة، بينما تواجهون أنتم أصناف المعاناة وألوان المحن، تواجهون الموت في كل لحظة وبأبشع صوره.
ما أروعكم وأجملكم! كان من المفترض أن تحيوا حياة الطفولة الطبيعية كسائر أطفال المعمورة؛ أن تنطلقوا في اللعب والمرح، وأن تملؤوا أروقة مدارسكم بالحيوية والنشاط، وأن تستمتعوا بعفوية الصغار وبراءتهم الخالصة، لكن الواقع المرير يجبركم على السير وسط ألسنة اللهب، تحت وابل القنابل والقصف المدمر، وفي طرقات تعجّ بالركام وحاويات القمامة الخاوية. تنبشون بأيديكم الغضة أكوام الحجارة والأنقاض لانتشال الأحبة من تحت الركام. تفتشون عن فتات الطعام وبقايا الزاد، في حين كان من المفترض أن تحملوا شطائركم إلى مدارسكم مزودين بقبلة دافئة من أمهاتكم.
لقد فُجعتم بفقدان أمهاتكم وإخوتكم الصغار وآباءكم النازفين، وتُتركون وحيدين في مواجهة القَدَر بلا سَنَدٍ أو معين. تهيمون هربًا من أزيز طائرات الموت بدلًا من أن تصدحوا بالأناشيد والقصائد. تذرفون الدموع في خيام لافحة تفتقر إلى أساسيات الحياة بلا ماء ولا طعام، وسط أنقاض وطن مدمر سُلب منكم.
كان من حقكم أن تغفوا في أحضان أمهاتكم الدافئة، وأن تتناولوا الحلويات والشوكولاتة، وتحتسوا العصائر المنعشة، وتطاردوا الفراشات بضحكاتكم العذبة التي تملأ الدنيا بهجة. لكنكم، ويا للأسف، أُجبرتم على تعلم أبجدية الموت في سنٍّ مبكرة!
وأنا... لعنة الله على ضعفي! لا أملك سوى هذه الكلمات التي أبوح من خلالها بضعفي، وأُوقّع بها على مَقْتي لذاتي. يخالجني شعور عميق بالخزي. كان واجبًا علينا أن نحفظكم ونرعاكم بمُهج أرواحنا، وأن نحرسكم بأبصارنا وقلوبنا، وأن نرفع أصواتنا عاليًا منددين، وأن نرفض -منذ اللحظة الأولى- هذه الإبادة الممنهجة. كان علينا تحطيم الحصار المفروض، وفتح الأبواب المغلقة، ورفض كل ذريعة أو صمت أو مفاوضة تُعقد على حساب أرواحكم الطاهرة. لكننا، بدلًا من ذلك، انشغلنا بالجدل العقيم: مَن المخطئ؟ كم شهيدًا سقط؟ وهل أنتم حقًا جائعون؟ وكم بلغ عدد الضحايا؟ ...
لقد أسهبنا في الحديث السياسي، وأفرطنا في الكتابة... آه، لو كنت أملك القوة لحملتكم واحدًا تلو الآخر بين ذراعي، ولشيدت لكم جنة على هذه الأرض؛ تملؤها الأشجار لتتسلقوها، والأراجيح لتلهوا بها، وتفيض بالطعام والشراب، وتزدان بوسائد ناعمة تحمل رسوم الطيور. ومدارس عامرة بالكتب والمعرفة، تعجّ بالأصدقاء والأهل الذين سُلبوا منكم. تلك الجنة ستمحو من ذاكرتكم عامين كاملين من الجحيم والخذلان، ولن يجرؤ أحد بعد اليوم أن يرمقكم بنظرة الشفقة أو الاستعطاف.
لكنني، للأسف، أفتقر إلى تلك القدرة... وكل ما بوسعي قوله بصدق وإخلاص: أعتذر إليكم من أعماق الفؤاد، فاعذروا تقصيري واغفروا عجزي. أخاطبكم من صميم القلب: لستم مجرد أرقام في الإحصائيات. الجنة خُلقت من أجلكم، أما الجحيم فهو لنا.