عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    27-Aug-2018

نظرية التهديد الصيني نموذج للمواقف المصلحية الأميركية*محمد فايز فرحات

 الحياة-بعد انهيار الاتحاد السوفياتي نهاية ثمانينات القرن العشرين، تطور تيار أكاديمي واسع النطاق داخل الولايات المتحدة، ربط بين صعود الصين، وتحولها إلى مصدر تهديد للنظام العالمي. وقد نجح هذا التيار في إنتاج مجموعة من الأدبيات العلمية المتراكمة عُرفت بـ «نظرية التهديد الصيني» (China threat theory). وعلى رغم الانتقادات الكثيرة التي وُجهت إلى هذه «النظرية»، إلا أنها نجحت في الحفاظ على درجة كبيرة من التعقيد والتماسك خلال العقود السابقة.

 
 
وقد وجدت «نظرية التهديد الصيني» أول تجسيد لها داخل الولايات المتحدة عام 1988 في أعمال إحدى اللجان المكلفة آنذاك وضع استراتيجية أميركية طويلة الأمد، حيث انتهت إلى أن الصين ستصبح القوة العسكرية الثالثة بعد الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي بحلول عام 2010. ومع أهمية هذه اللجنة ونتائجها، ظل إدراك الصين كمصدر للتهديد محصوراً داخل نطاق محدود، ولم يبدأ في الانتشار على نطاق واسع داخل الجماعة الأكاديمية المعنية بالدراسات الأمنية إلا في بداية تسعينات القرن الماضي، وتحديداً عام 1992، كرد فعل لعاملين أساسيين. أولهما، بدء موجة النمو المتسارع للاقتصاد الصيني في ذلك الوقت، وثانيهما انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة. فقد تبع ذلك انشغال الجماعة الأكاديمية الأميركية بمحاولة تقديم إجابة عن تساؤلين أساسيين: ما هو الأثر المتوقع لصعود الصين؟ وما هي السياسة الأميركية المثلى للتعامل مع هذا الصعود؟ وعرضت الجماعة الأكاديمية في هذا الإطار إجابات كثيرة.
 
كذلك شهدت أدبيات هذه «النظرية» دفعاً كبيراً مع تحول عدد من التقارير والدوريات العلمية خلال النصف الأول من التسعينات إلى استخدام «الأسعار المعيارية الدولية» (SIP)، والتي عرفت لاحقاً بـ «تعادل القوة الشرائية» (PPP)، كطريقة لتقدير حجم الناتج المحلي الإجمالي وحجم الإنفاق العسكري. وعلى سبيل المثل، أدى اعتماد تقرير The Military Balance (العدد 1993 - 1994) الذي يصدره المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، لهذه الطريقة إلى ارتفاع تقدير حجم الإنفاق العسكري الصيني في ذلك العام إلى أربعة أمثال قيمته في العام السابق. كما تبع سلسلة التدريبات العسكرية والتجارب الصاروخية التي أجرتها الصين بالقرب من خليج تايوان في منتصف التسعينات، وكرد فعل لنشر الولايات المتحدة حاملتي طائرات بالقرب من المضيق، ظهور موجة أكثر حدة من الكتابات الأميركية في إطار هذه «النظرية».
 
وعلى رغم حدوث تراجع نسبي لنظرية «التهديد الصيني» داخل الولايات المتحدة في بعض الأوقات على خلفية تحولات داخلية أو دولية محددة، إلا أنها لم تؤد إلى انتهاء تلك النظرية، وسرعان ما كانت تعود كواحدة من القضايا الرئيسية على أجندة الباحثين والأكاديميين الأميركيين. من ذلك، على سبيل المثل، اتجاه إدارة كلينتون في نهاية التسعينات إلى بناء «شراكة استراتيجية» مع الصين، وما تبع ذلك من تراجع نسبي لهذه النظرية. لكنها سرعان ما عادت مرة أخرى وبقوة خلال فترة كلينتون الثانية مع اتهام الصين بالتجسس العسكري، ومحاولة الولايات المتحدة تعطيل انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية، والتوتر بين البلدين على خلفية العلاقة مع تايوان. كذلك، أدت هيمنة قضية الحرب ضد الإرهاب على أجندة السياسة الخارجية الأميركية والسياسة العالمية عقب أحداث أيلول (سبتمبر) 2001، إلى تراجع نسبي في أدبيات «نظرية التهديد الصيني»، لكنها لم تختف تماماً. ومرة أخرى، ومع تراجع أولوية قضية الحرب ضد الإرهاب على أجندة الولايات المتحدة عام 2005، خصوصاً على خلفية الكلفة المادية والبشرية الضخمة للتورط العسكري في أفغانستان والعراق وتواضع النتائج الإجمالية لهذه الحرب، سرعان ما عادت أدبيات «نظرية التهديد الصيني» إلى الصعود لتبدأ موجة جديدة من الكتابات الأميركية في هذا المجال.
 
وفي شكل عام، هناك ثلاث نظريات عامة تطورت في إطارها مقولات «التهديد الصيني»، هي النظرية الواقعية، والمؤسسية، ونظرية «السلام الديموقراطي». النظرية «الواقعية»، تعتمد في تفسيرها سلوك الدول على عاملين رئيسين، هما القدرات المادية للدولة (الاقتصادية والعسكرية)، مقاسة بالحجم المطلق لهذه القدرات، وحجم هذه القدرات مقارنة بالقوى الأخرى داخل النظام الدولي، أو ما يعرف بالقدرات النسبية، وعامل «النوايا» intentions، مقاساً بطبيعة سلوك الدولة. واستناداً إلى هذه النظرية، تذهب فئة من أدبيات «نظرية التهديد الصيني» إلى أن الصين باتت تمثل تهديداً للمصالح الأميركية وللنظام العالمي بفعل تزايد حجم القدرات النسبية للصين داخل النظام العالمي في مواجهة الولايات المتحدة، نتيجة التغيرات الهيكلية التي شهدها هذا النظام عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، وتزايد حجم القدرات الاقتصادية والعسكرية المطلقة، نتيجة استمرار النمو الاقتصادي، وعمليات التحديث العسكري، وأخيراً بفعل تنامي الإدراك السلبي للنوايا الصينية. وقد لعبت المدرسة الواقعية دوراً كبيراً في تعميق «نظرية التهديد الصيني» ونشرها، على خلفية استقرار النظام الأحادي القطبية بقيادة الولايات المتحدة، إذ يسعى القطب المهيمن على النظام إلى منع ظهور أي أقطاب دولية أخرى، ما يدفعه إلى التعامل مع دول الصف الثاني باعتبارها مصادر مهمة لتهديد استقرار النظام العالمي.
 
وبعكس الواقعية، ترى «النظرية المؤسسية» أن الفاعلين المحليين ذوي المصلحة هم الذين يلعبون الدور الرئيسي في تطور الإدراك بأن فاعلاً دولياً ما يمثل تهديداً، مدفوعين في ذلك بسعيهم إلى الحفاظ على مصالحهم المؤسسية والمادية، يساعدهم في ذلك غموض النصوص القانونية المحددة أدوار هؤلاء الفاعلين. في هذا الإطار، تذهب هذه المدرسة إلى أن انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة، استتبعهما تحول مماثل في توجهات عدد من جماعات المصلحة والفاعلين الداخليين داخل الولايات المتحدة في اتجاه تصنيف الصين كمصدر رئيس للتهديد، كمدخل للحفاظ على المصالح المادية والسياسية لهؤلاء الفاعلين، مؤسسات أو أفراداً.
 
وأخيراً، تستند نظرية السلام الديموقراطي، إلى طبيعة النظام السياسي للفاعلين الدوليين كمتغير رئيس في تحديد طبيعة التهديد. والمقولة الرئيسية هنا أن الديموقراطيات لا تسعى إلى الحرب، سواء بفعل القيود والضوابط المؤسسية، المتمثلة في تعقيدات وآليات عملية صنع القرار داخل النظم الديموقراطية، أو بفعل القيم الديموقراطية التي تميل بطبيعتها إلى تفضيل التفاوض والتسوية السلمية للنزاعات. لذلك، فإن القيادات السياسية داخل النظم الديموقراطية تجد صعوبة كبيرة في تبرير الهزيمة في الحرب وكلفتها المادية والبشرية، ما قد يكلفها الخروج من السلطة في أقرب انتخابات بعد الحرب، بعكس النظم غير الديموقراطية حيث لا تجد القيادات السياسية مثل هذه الصعوبات، نتيجة ما تتسم به عملية صنع قرار الحرب من سرية وسرعة وعدم شفافية، فضلاً عن ضعف المساءلة. وهكذا، مالت مدرسة «السلام الديموقراطي» إلى ربط «التهديد» الصيني بطبيعة النظام السياسي الصيني.
 
على رغم ما تبدو عليه مقولات نظرية «التهديد الصيني» من تماسك، وقدرتها على البقاء طوال العقود الثلاثة الماضية، فالنظرية تعاني مشكلات هيكلية باتت شديدة الوضوح خلال السنوات الأخيرة، سواء بفعل السلوك الأميركي أو السلوك الصيني ذاته. فعلى الجانب الأميركي، لا يمكن إغفال دور المتغيرات ومصالح بعض القوى والفاعلين الداخليين الأميركيين في انتشار هذه النظرية، وهو ما كشفته الكتابات الأميركية التي استندت إلى مقولات النظرية المؤسسية المشار إليها سابقاً (جماعات المصلحة الاقتصادية والتجارية، والمجمع العسكري الصناعي...). لكن الأمر الأهم الذي يحتاج إلى تفسير هو لماذا راجت نظرية «التهديد الصيني» داخل الولايات المتحدة في الأساس؟ ما يشير إلى ارتباط انتشار النظرية بعوامل ذاتية ومصلحية أكثر منها موضوعية.
 
في المقابل، وعلى مستوى السلوك الصيني، فإن تحليل هذا السلوك على مدى العقود السابقة، لا يشير إلى ما يؤسس لهذه النظرية. ففي مقابل سياسة التدخل العسكري الأميركي في عدد من الدول، والتي انتهت بانهيارها وتدمير اقتصاداتها وجيوشها الوطنية، أو زيف الادعاءات الأميركية بإعادة بناء هذه الدول، ما زالت الصين تتمسك بمبدأ عدم التدخل والتمسك بالمفهوم التقليدي للسيادة. وفي مقابل الانسحاب الأميركي من بعض الأطر المتعددة الطرف، مثل الانسحاب من اتفاق تغير المناخ، واتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ، والمجلس الأممي لحقوق الإنسان، ما زالت الصين تعلن تمسكها بالعولمة، وبمفهوم «مجتمع المصير المشترك»، الذي أصبح من المفردات المهمة في الخطاب الصيني العالمي. وفي مقابل الإصرار الأميركي على مبدأ «مسؤولية الحماية» الذي يتم استخدامه كذريعة للتدخل العسكري، ما زالت الصين تعلن تمسكها بهذا المبدأ وهذه المسؤولية أيضاً ولكن بدافع ومضمون اقتصادي تنموي.
 
ستظل «نظرية التهديد الصيني» نظرية «أميركية» في الأساس، تطورت في سياقات دولية وداخلية محددة، استناداً إلى دوافع مصلحية، لا تستند إلى أسس موضوعية تتعلق بالسلوك الخارجي الصيني. كما أن الكثير من الأفكار والمبادرات الكبرى التي قدمتها الصين خلال السنوات الأخيرة تدحض مقولات هذه النظرية.