الغد-عزيزة علي
نظمت لجنة النقد الأدبي في رابطة الكتاب الأردنيين، قراءة نقدية لكتاب "مختارات المترجمة عن التركية: إسطنبول تقول" للمترجم أسيد الحوتري، الذي يجمع سبع قصص قصيرة تعكس الواقع الاجتماعي والنفسي للإنسان التركي الحديث.
شارك في هذه القراءة التي أقيمت أول من أمس، في مقر رابطة الكتاب الأردنيين أستاذا اللغة التركية في الجامعات الأردنية: الدكتور رباع الربابعة والدكتور علي مقدادي. وأدار الجلسة محمد الجبور. كما قدم المترجم شهادة حول مشروعه المستقبلي للترجمة.
وتطرق المشاركون، إلى أهمية الترجمة من التركية إلى العربية ودور الأدب التركي في تصوير التحولات التاريخية والاجتماعية والثقافية، مع تسليط الضوء على مساهمات الحوتري في نقل النصوص بدقة وبروحها الأصلية.
أشار د. رباع الربابعة، إلى أن الترجمة من التركية إلى العربية ما تزال تعاني نقصا واضحا في الكم والنوع، رغم الروابط التاريخية والثقافية بين العرب والأتراك، وتعتمد غالبا على جهود المترجمين الأفراد وليس على مؤسسات رسمية.
وفي هذا السياق، يبرز المترجم أسيد الحوتري بمساهماته المهمة، مثل ترجمته للمجموعة القصصية "إسطنبول تقول"، التي تعكس رؤيته لإسطنبول كمدينة حية، تنبض بحكايات الناس وأحلامهم وآلامهم.
تتكون المجموعة وفق الربابعة، من سبعة نصوص متنوعة، لكنها تتقاطع في أفق دلالي مشترك يتمثل في القلق الوجودي، التوتر الاجتماعي، والبحث عن المعنى في عالم متغير، ما يبرر جمعها في كتاب واحد من الناحية الفنية والفكرية.
ورأى ربابعة، أن هذه القصص تعكس صورة الإنسان التركي الحديث ككائن مأزوم يعيش بين ضغوطات المجتمع وثقل الذكريات، وبين الرغبة في الصعود والخوف من السقوط. النصوص لا تقدم حلولًا جاهزة، بل تطرح أسئلة، لتصبح القصة مساحة مفتوحة للتعبير عن القلق الإنساني الدائم، بدلًا من كونها أداة للتوجيه أو الوعظ.
رغم اختلاف كتاب هذه القصص وأساليبهم وسياقاتهم الزمنية، إلا أنها تشترك في سمات عامة تمنحها تماسكًا دلاليًا يبرر جمعها في كتاب واحد. وأبرز هذه السمات هو التركيز على الإنسان الفرد في مواجهة مجتمع ضاغط أو واقع مربك، حيث تظهر الشخصيات في حالة قلق دائم، اغتراب داخلي، أو صراع صامت مع منظومة قيم لا تتوافق مع تطلعاتها.
ونوه ربابعة، إلى أن هذه النصوص تشترك في الانتقال من التركيز على الحدث الخارجي إلى الكشف عن البنية النفسية للشخصيات، فيصبح السرد أداة لفهم التصدعات الداخلية أكثر من كونه مجرد حكاية تقليدية. المجتمع يظهر فيها كقوة غير مرئية تفرض إيقاعها على الأفراد عبر القهر أو التجاهل أو النفاق أو الصمت. كما تستخدم القصص الرموز والإيحاء بدرجات مختلفة، من الرمزية الصريحة إلى الهادئة المتخفية في تفاصيل الحياة اليومية، مما يمنح النصوص عمقا تأويليا ويفتحها على قراءات متعددة.
وتحدث الربابعة عن البناء السردي والزمن، لافتا إلى أن القصة لا تتبع تسلسلا خطيا، بل تعتمد التداعي الحر والانتقال المفاجئ بين الحاضر والماضي، ليعكس تشظي وعي الشخصية وعجزها عن الاستقرار الزمني؛ فالماضي يحترق، والحاضر قاسٍ، والمستقبل غائب، بينما يشكل الفضاء الرمزي متنفسا لها.
كما رأى، أن النص يتناول أهمية المكان في الحكاية، موضحًا كيف تقدم إسطنبول كمدينة خانقة وعدوانية، وضيقة الشوارع، تجسد انعدام الرحمة والقسوة، خاصة في الأيام الماطرة. كما يصف النص القصص التركية في هذه المجموعة بأنها تجمع بين الواقعية والرمزية، والتحليل النفسي والنقد الاجتماعي، لتصبح مرآة دقيقة للإنسان في زمن التحول، حيث تقرأ القصص ليس بحثا عن النهاية بل عن فكرة أو سؤال خفي يرافق القارئ بعد القراءة. وأخيرا، يشيد النص بمجهود المترجم أسيد الحوتري في نقل النصوص بدقة، مع الحفاظ على روحها الأصلية وإيقاعها الفني وعمق مضامينها.
من جانبه، قال د. علي مقدادي "إن الأدب الحديث والمعاصر يحمل رسالة واقعية، إذ يعالج قضايا الناس ويعبر عن معاناتهم وهمومهم، ويصور حياتهم الاجتماعية من دون تجميل، بلغة سلسة لا تستعصي قراءتها ولا يصعب فهمها على مختلف فئات المجتمع".
وأشار مقدادي، إلى أن الأدب التركي تطور من مرحلة التأثر بالأدب العربي القديم، حيث ركز على تصوير القصور والطبيعة والغزل، إلى أدب حديث واقعي يقدم صورا حية للحياة في مدن تركية مثل، إسطنبول وأنقرة وبورصة، ويعرف القارئ بالأماكن التاريخية واليومية والتفاصيل الثقافية مثل المطبخ التركي.
وبين مقدادي أن الأدب القصصي التركي ظهر في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، شهد منعطفًا تاريخيًا مهمًا، حيث ارتبط تحوله بالتغيرات السياسية والدستورية في الدولة العثمانية، وانفتاح الثقافة التركية على الآداب الأوروبية، خاصة الأدب القصصي والروائي، بعد صدور خط كلخانة الشريف (1839)، وخط همايون (1856)، الذي أطلق مرحلة التنظيمات العثمانية والإصلاحات الاجتماعية والإدارية.
ومع إعلان المشروطية الأولى (1876)، والثانية (1908)، أصبحت حرية الصحافة والنشر أرضا خصبة لولادة القصة الحديثة، فتشكلت أجيال أدبية جديدة تعالج التنوير والحداثة والنقد الاجتماعي، وتحولت القصة من نصوص أخلاقية إلى بنية سردية تعبر عن الفرد والمجتمع والتحولات القيمية وصراع التقليد والحداثة.
وقال مقدادي "إنه وبعد دخول الدولة مرحلة الانهيار خلال الحرب العالمية الأولى، ثم سقوطها العام 1922 وإعلان الجمهورية التركية العام 1923، كان الأدب القصصي غدا سجلا ثقافيا حيا يوثق التحول من الإمبراطورية إلى الدولة القومية. فقد حمل أدباء تلك المرحلة مسؤولية صياغة وعي جديد، ورسم ملامح الذات الحديثة، وتجاوز النموذج العثماني التقليدي نحو سرد واقعي ونقدي وتنويري".
ورأى مقدادي، أن أهمية الأدب القصصي في هذه المرحلة لا تنبع من قيمته الفنية وحدها، بل من دوره بوصفه وثيقة اجتماعية وسياسية، وفضاءً للصراع الفكري، ومختبرًا لتحولات الهوية. لذلك فإن دراسة القصة في أواخر العهد العثماني وبدايات الجمهورية لا تمثل بحثًا في نصوص أدبية فحسب، بل مدخلا لفهم مرحلة انتقالية صاخبة صنعت نهايات عالم قديم وبدايات عالم جديد.
وخلص مقدادي، إلى أن المترجم في تقديمه لهذه الترجمات إلى الزمن الذي كتبت فيه هذه الأعمال "أما هذه المختارات القصصية، فهي تقدم للقارئ العربي نماذج متميزة من القصة القصيرة التركية الحديثة، كتبت جميعها في ظل المرحلة الانتقالية الحاسمة، من الدولة العثمانية إلى الجمهورية التركية".
قال المترجم أسيد الحوتري "إن مشروعه في الترجمة من التركية إلى العربية ينبع من شعور عميق بالوفاء لتركيا ولمدينة أنقرة، التي شهدت تكوينه العلمي وبناء علاقاته الأكاديمية والإنسانية المميزة".
وقال "إن مبادرة ترجمة الأعمال التركية الكلاسيكية انطلقت بدافع الامتنان لتجربته في تركيا، بهدف بناء جسر معرفي وأدبي بين الثقافتين التركية والعربية". حيث بدأ مشروعه العام 2023، بكتاب "حدث في الآستانة"، الذي يضم 11 قصة قصيرة من الأدب التركي، ثم واصل العمل في العام الحالي، بترجمة سبع قصص طويلة لم تُترجم سابقًا، لمؤلفين يُعدّون من روّاد القصة القصيرة التركية.
وأشار الحوتري، إلى أنه يعمل الآن على مشروع جديد يُتوقع صدوره العام المقبل، وهو ترجمة الرواية التركية الكلاسيكية "المغامرة"، للروائي سامي باشا زاده سزائي.