عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    18-Jun-2022

مواقف الدول المغاربية من الحرب في أوكرانيا

 الغد-أكرم بلقايد – (أوريان 21) 19/5/2022

 
أهم شيء هو عدم إعطاء انطباع بالانحياز، مع الحرص على عدم إغضاب أي من المتصارعين. هذا هو الخط الذي تبنته الدول المغاربية الثلاثة (الجزائر والمغرب وتونس) منذ الأيام الأولى للغزو الروسي لأوكرانيا في 24 شباط (فبراير) 2022. وقد تجسدت هذه الاستراتيجية في 2 آذار (مارس)، عند اعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا يدعو إلى انسحاب القوات الروسية والوقف “الفوري” لاستخدام القوة على الأراضي الأوكرانية.
وقد تفاجأ الملاحظون بنتيجة تصويت دول شمال إفريقيا على هذا النص غير الملزم. فقد كانت الجزائر، وهي الحليف التقليدي للاتحاد السوفياتي السابق والزبون الكبير للأسلحة الروسية، من بين الـ35 دولة التي امتنعت عن التصويت. وبالتالي، لم تكن ضمن الدول الأربع الأخرى التي عارضت القرار فضلا عن روسيا، وهي كوريا الشمالية، وبيلاروسيا، وإريتريا، وسورية. أما المغرب، فعلى الرغم من كونه شريكا وفيا للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، فقد تجنب المشاركة في الاقتراع. كما ضحت تونس بحذرها الدبلوماسي المعتاد من خلال ضم صوتها 140 دولة أخرى صوتت لصالح النص. وبعد أيام قليلة، في 24 آذار (مارس)، تكررت الصورة نفسها مع قرار قدمته كييف بخصوص “العواقب الإنسانية للعدوان على أوكرانيا”، حيث امتنعت الجزائر عن التصويت، ولم تشارك المغرب، وصوتت تونس لصالح القرار.
حياد براغماتي
لكل من هذه المواقف تفسيره الخاص، ويمكّن من فهم رد فعل اللاعبين المباشرين وغير المباشرين في النزاع (روسيا، وأوكرانيا، والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة)، وخاصة نوع الضغط الذي يمارسونه على القوى المغاربية. وقد أشارت الدبلوماسية الجزائرية قبل كل شيء إلى رغبتها في عدم الانحياز لأي طرف في صراع لا يعني بلادها. لكنها سرعان ما قدمت خطابا تقليديا حول “الالتزام بالسلام والبحث عن حل تفاوضي”.
في الواقع، تسعى الجزائر إلى لعب دور القاطرة ضمن مجموعة الاتصال العربية التي تضم أيضا مصر والعراق والأردن والسودان والأمين العام لجامعة الدول العربية. وفي أوائل نيسان (أبريل)، التقى وفد برئاسة وزير الخارجية الجزائري، رمطان لعمامرة، برئيس الدبلوماسية الروسية في موسكو سيرغي لافروف، كما التقى في وارسو بوزير الخارجية الأوكراني، دميترو كوليبا. وكانت نتيجة هذه المشاورات التعبير عن دعم “مفاوضات مباشرة” بين المتحاربين.
لما سئل عن ذلك، طرح مسؤول جزائري رفيع مفهوم “الحياد البراغماتي”؛ براغماتية تأخذ في الحسبان حقيقة رئيسية هي التعاون العسكري الكبير مع روسيا. فبين العامين 2017 و2021، سلمت موسكو 81 % من الأسلحة والمعدات الدفاعية للجيش وقوات الأمن في الجزائر، ما يسمح بتحديث المعدات وتوفير مجال تدخل للجزائر يغطي كل شمال إفريقيا ومنطقة الساحل وجزء من جنوب أوروبا. وفي الوقت نفسه، لا تمثل كييف شريكا تجاريا مهما للجزائر، على الرغم من أن الديوان الجزائري المهني للحبوب يخطط منذ العام 2019 لاستيراد القمح الأوكراني بقصد تقليل مشترياته من فرنسا. وفي بلد يصل فيه حجم الدفاع ما يقارب 7 % من الناتج المحلي الإجمالي، تستحيل مخاصمة موسكو من دون إضعاف القدرات الدفاعية. وهذا الاحتمال غير مقبول للنظام في وقت وصل فيه التوتر ذروته مع المغرب منذ 2020.
لكن في الوقت نفسه، يفرض الشعور بالواقع على الجزائر عدم التفريط في شركائها الغربيين، حيث تعد فرنسا وإيطاليا وإسبانيا من بين أهم مشتري الغاز ومن أهم المزودين بعتاد التجهيز. ولهذا كان الاختيار هو الامتناع عن التصويت في الأمم المتحدة بدلاً من تبني موقف صريح مؤيد لروسيا، على غرار سورية أو إريتريا. وفي سياق يتميز بمضاعفة العقوبات الغربية ضد موسكو، تكرر السلطات الجزائرية دائماً أن البلد “مزود غاز موثوق للسوق الأوروبية”. ويفهم من ذلك أن الشركة الوطنية للنفط والغاز (سوناطراك) على استعداد لتعويض توقف محتمل لتزويد روسيا القارة العجوز بالمحروقات. وقد أبرمت الجزائر وإيطاليا في 11 نيسان (أبريل) اتفاقا يقضي بتزويد تسعة مليارات متر مكعب إضافية من الغاز.
تسمح ورقة مزوّد الطاقة المخلص والمسؤول للجزائر بتعويض رفضها الامتثال لمطالب الغربيين الملحة نوعاً ما بالابتعاد عن الروس. وقد قام على التوالي كل من وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن (30 آذار/ مارس)، ورئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراغي (11 نيسان/ أبريل)، ووزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان (13 نيسان/ أبريل)، بزيارة الجزائر. صحيح أنهم لم يحصلوا على تغيير كبير في الموقف الجزائري، ولكن قُدمت لهم تطمينات بشأن إمداد أوروبا بالغاز.
مخاوف الكرملين
غير أنه يصعب إرضاء طرف من دون التسبب في قلق الآخر. ففي 8 نيسان (أبريل) في الأمم المتحدة، استبقت الجزائر رد فعل غاضبا من الكرملين بتخليها عن موقف الامتناع، وصوتت ضد قرار الجمعية العامة باستبعاد روسيا من مجلس حقوق الإنسان. وصرح حينها نذير العرباوي، سفير الجزائر لدى الأمم المتحدة، بأنه “على الرغم من أن الصور المتداولة في بعض المدن الأوكرانية مروعة ومدانة بأشد العبارات، والجرائم المزعومة التي تترتب عنها بالغة الخطورة، إلا أنه بات ضروريا أكثر من أي وقت السماح لعمل الآليات الأممية المختصة بالتحقيق على أرض الواقع بطريقة محايدة، حتى يتسنى إقرار العدالة لجميع الضحايا”.
وفي 18 نيسان (أبريل)، أفادت وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية (واج) بأن الرئيسين عبد المجيد تبون وفلاديمير بوتين أجريا مكالمة هاتفية -بمبادرة من الأخير- والتي سمحت لهما، من بين أمور أخرى، بالتعبير عن “ارتياحهما للتطور المسجل في التعاون الثنائي في كل المجالات”. ويستحيل معرفة المزيد عن فحوى المكالمة، لكن مما لا شك فيه أن الإعراب المتكرر عن النوايا الحسنة من طرف السلطات الجزائرية تجاه الاتحاد الأوروبي قد أثار في آخر المطاف قلق الكرملين، ومن هنا جاءت مكالمة التطمين.
كان من المنطقي أن يزور سيرغي لافروف الجزائر هو أيضا في 10 أيار (مايو) للتوقيع على “وثيقة استراتيجية جديدة تكون أساسا للعلاقات الثنائية بين البلدين” لتحل محل “إعلان التعاون الاستراتيجي” المعتمد في العام 2001. ومن الواضح أن موسكو التي أشادت بـ”الموقف الحكيم والموضوعي للجزائر تجاه التطورات في أوكرانيا” قررت عدم ترك المجال الجزائري لخصومها. وتم توجيه دعوة رسمية للرئيس تبون من طرف نظيره لزيارة موسكو. كل هذه التطورات تطرح سؤالين: هل سيكون بمقدور الجزائر في حالة الصراع المطول تعويض الغاز الروسي بصفة مستدامة؟ وإذا كان الأمر كذلك، إلى أي مدى ستقبل الكرملين مثل هذا الموقف؟
رهان الصحراء الغربية
إذا كان على الجزائر طمأنة شريكها الروسي، فإن على المغرب القيام بالشيء نفسه مع الغربيين الذين لم تعجبهم تماماً سياسة الكرسي الشاغر التي اتبعتها الرباط خلال عمليات التصويت الثلاث المتتالية للجمعية العامة للأمم المتحدة. كانت هذه الاستراتيجية فرصة لتداول النكت بين العديد من مستخدمي الإنترنت المغاربة، حيث كتب أحدهم في 8 نيسان (أبريل) بعد تعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان: “في كل مرة يتم فيها التصويت، يكون سفيرنا محجوزا في المصعد أو في المراحيض”. لكنها أجبرت الرباط على الرد، وقد فعلت من دون أن تشرح موقفها.
في الثاني من آذار (مارس)، تاريخ القرار الأممي الأول، أكد بيان صحفي صادر عن وزارة الخارجية والمغاربة المقيمين بالخارج أن الغياب عن التصويت لا يجب أن يفتح الباب أمام أي تأويل. وتم فيه التذكير “بتمسك المملكة القوي باحترام سلامة الأراضي والسيادة والوحدة الوطنية لجميع الدول الأعضاء بالأمم المتحدة”، كما أصر دبلوماسيوها على “القرار السيادي” لبلدهم، وكونهم سيقدمون “مساهمة مالية للجهود الإنسانية” للأمم المتحدة. وفي السياق نفسه، طرح العديد من الرسميين فكرة “الحياد الإيجابي” الذي يراعي قبل كل شيء مصالح المغرب الإستراتيجية.
انتقادات غربية
لكن هذه المصالح الاستراتيجية تمنع الرباط من معاداة روسيا لسببين على الأقل. يتعلق الأول بقضية الصحراء الغربية؛ إذ ترى المملكة ضرورة مهادنة موسكو لمنعها من دعم الموقف الجزائري بشكل كامل. صحيح أن سيرغي لافروف كرر في مرات عدة أن بلاده تعارض “كل إجراء أحادي الجانب يتعلق بحل النزاع بين جبهة البوليساريو والمغرب”، وأن روسيا لا تنوي تقليد الولايات المتحدة التي اعترفت، في عهد دونالد ترامب، بـ”مغربية” الصحراء. لكن ما لا تريده الدبلوماسية المغربية هو إما دعم روسي حازم لمبادرة جزائرية تحاول إعادة بعث عملية الأمم المتحدة لتسوية النزاع عن طريق استفتاء تقرير المصير للسكان الصحراويين، وإما فيتو لموسكو ضد مبادرة بديلة يأمل المغرب بأن تتبناها الأمم المتحدة ذات يوم لتكريس استيلائه النهائي على الصحراء (حكم ذاتي، ولكن تحت السيادة المغربية). ويتعلق الأمر بوضوح بالنسبة للرباط بعدم رمي الروس في أحضان الجزائريين و”البوليساريو”.
أما السبب الثاني، فهو اقتصادي. فمنذ بداية سنوات الألفية الجديدة أدت العولمة إلى زعزعة الموازين التجارية في المنطقة المغاربية. وبعد أن كانت لمدة طويلة مجالا محتكرا للمصالح الغربية، وخاصة الفرنسية، نوعت المنطقة بشكل كبير مصادر إمداداتها. وبمرور السنين، أصبحت روسيا مزوداً رئيسياً للمملكة بالمواد الخام. ويستحيل في هذه البلاد، التي يمثل فيها القطاع الزراعي 14 % من الناتج الإجمالي المحلي، الاستغناء عن الأسمدة العضوية والمعادن الروسية. وكذلك الأمر بالنسبة للفلزات والنفايات العضوية وعجينة الورق أو المنتجات البتروكيمياوية. وبعيداً عن التسلح، يعد المغرب الشريك التجاري الأول لروسيا، التي تحقق فائضا يقدر بـ780 مليون دولار في التبادل الثنائي. وبذلك يصعب إغضاب مزود مثل هذا تعد منتجاته مهمة للغاية بالنسبة للتنوع الصناعي للمملكة، وهي أقل تكلفة من نظيراتها الغربية المنافسة. ولا يهم إذا غضبت أوكرانيا التي ما تزال جهودها التجارية في المنطقة المغاربية، خاصة في مجال التزويد بالحبوب والمنتجات الغذائية، في خطواتها الأولى، كما هو الحال مع الجزائر. وإدراكاً منه لذلك، قرر الرئيس فولوديمير زيلينسكي إقالة أوكسانا فاسيلييفا، سفيرة بلاده في المغرب، وصرح في رسالة فيديو تم بثها في 30 آذار (مارس): “هناك من يعمل حتى تتمكن أوكرانيا من الدفاع عن نفسها والقتال من أجل مستقبلها، وهناك من يضيع الوقت في التمسك بمنصبه. لقد وقعت على مرسوم أول لاستدعاء مثل هؤلاء، في شخص سفيرة أوكرانيا في المغرب”. كما تعرضت الرباط لانتقادات من دبلوماسيين غربيين مثل بيكا هيفونين، سفير فنلندا، الذي تأسف في تغريدة بتاريخ 24 آذار (مارس) لغياب التصويت المغربي في الأمم المتحدة: “لقد صوتت موريتانيا لصالح القرار الإنساني. كان المغرب غائبا كما خلال التصويت الذي أدان غزو روسيا. سيظهر التاريخ أن العدالة ستنتصر”، وهو ما أثار غضب الكثيرين من مستخدمي الإنترنت المغاربة، وأجبر السفير على حذف تغريدته.
كما حاولت الولايات المتحدة هي الأخرى التأثير في الموقف المغربي، فقامت كل من ويندي شيرمان، نائبة وزير الخارجية الأميركي، ووزير الخارجية أنتوني بلينكن، بزيارتين إلى الرباط، الأولى في 8 آذار (مارس) والثانية في 29 من الشهر نفسه، لكن ذلك لم يغير شيئاً. لم يتنازل محاوروهما المغربيون عن أي شيء بخصوص النزاع الروسي الأوكراني، ولكنهم أبرزوا التقدم الملموس الذي حصل في مجال العلاقات بين المملكة وإسرائيل. وهو موضوع من شأنه أن يثير بعض التساهل من طرف الأميركيين.
وبالنسبة للعلاقات مع الأوروبيين، تبقى مسألة الصحراء الغربية في قلب المعادلة. وتطالبهم الرباط بتحرك يتمثل، وفق رئيس دبلوماسيتها ناصر بوريطة، في الخروج من “منطقة راحتهم”، وإلا سيستمر المغرب في التمسك بـ”حياده الإيجابي” تجاه موسكو.
من بين بلدان المغرب العربي الوسطى الثلاثة، تبدو تونس البلد الذي يتمتع بأقل حيز من المناورة فيما يتعلق بالحرب في أوكرانيا. وقد انحازت تونس في البداية إلى المعسكر الغربي من خلال تصويتها لصالح القرار الأممي (2 آذار/ مارس) الذي يدين استخدام روسيا للقوة في أوكرانيا. ولم يلق هذا التصويت إجماعاً عند دبلوماسيي هذا البلد الذي اعتاد أن يكون أكثر حذراً. ويقول وزير سابق كان يفضل أن تمتنع تونس عن التصويت أو حتى أن تتغيب عنه كما فعلت المغرب: “كان علينا الانتظار والمماطلة كما فعلت بلدان إفريقية أخرى، قبل اتخاذ قرار بهذه الطريقة. لدينا الكثير لنخسره، سواء مع الروس أو مع الغرب”. لكن الصعوبات المالية والاقتصادية التي تراكمت منذ العام 2011، ناهيك عن الضبابية السياسية التي سادت بعد الانقلاب الذي قام به الرئيس قيس سعيد في 25 تموز (يوليو) 2021، قوضت إمكانية المماطلة التونسية. كما أن هشاشة وضع البلد تفتح الطريق أمام الضغوط الخارجية، وتؤجج الإشاعات حول تدخل هذه العاصمة أو تلك.
لماذا جاء التصويت مرتين ضد روسيا؟ يبدو التفسير واضحاً بالنسبة للعديد من التونسيين، فالمفاوضات الجارية مع صندوق النقد الدولي في سياق تكافح فيه البلاد من أجل تغطية نفقاتها، فرضت مثل هذه البادرة، خاصة وأن الولايات المتحدة الأميركية تراقب تونس عن كثب. ففي أيلول (سبتمبر)، دعا المتحدث باسم وزارة الخارجية، نيد برايس، الرئيس التونسي قيس سعيّد إلى قيادة عملية إصلاح “شفافة وشاملة”. وفي 27 نيسان (أبريل)، وبعد أن تجاهل أنطوني بلينكين تونس علناً خلال جولته في شمال إفريقيا، أعادت واشنطن الكرّة، وقال نيد برايس إن “الولايات المتحدة تشعر بقلق عميق إزاء مبادرة الرئيس التونسي بإعادة هيكلة الهيئة العليا المستقلة للانتخابات بقرار أحادي الجانب”، وإن بلاده “واصلت إبلاغ القادة التونسيين بأهمية الحفاظ على استقلالية المؤسسات الديمقراطية الرئيسية، وضمان عودة تونس إلى المسار الديمقراطي”. وإذا أخذنا بعين الاعتبار نفوذ الولايات المتحدة في مجلس إدارة صندوق النقد الدولي، سيكون من السهل فهم دوافع موقف السلطات التونسية في الملف الروسي الأوكراني.
رسالة قيس سعيّد، خبر كاذب ذو وزن حقيقي
كيف يمكن على ضوء كل هذا تفسير امتناع تونس عن التصويت على قرار استبعاد روسيا من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة؟ هنا أيضا، يكمن التفسير في الضغوط الخارجية. وهي ليست ضغوطا روسية، حيث يبدو أن قادة موسكو لا يهتمون كثيرا بتونس، بل ضغوط من الجارة الجزائرية التي يعتمد عليها كثيراً الرئيس سعيّد على الصعيد المالي. بالنسبة للجزائر، فإن إقناع تونس بتبني موقف أكثر توازناً هو دليل على نفوذها في المنطقة وطريقة لتعزيز مصداقيتها تجاه موسكو. وفي منتصف شهر آذار (مارس)، تناقلت حسابات تونسية على شبكات التواصل الاجتماعي نسخة من رسالة مكتوبة بخط اليد، يُزعم أن قيس سعيّد أرسلها إلى نظيره الجزائري عبد المجيد تبون، ليطلب منه التدخل لدى الروس دفاعاً عن تونس، وليوضح لهم أنه لم يكن لدى الدبلوماسية التونسية خيار آخر سوى التصويت لصالح قرار الثاني من آذار (مارس)، وأن هذا الالتزام تمليه الضغوط الغربية وسلوك “العصابات” الذي ينتهجه صندوق النقد الدولي. وقد ندد قصر قرطاج على الفور بهذه الوثيقة المزورة، ودعا إلى فتح تحقيق في انتهاك الأمن القومي. ويؤكد الوزير السابق: “هذه الوثيقة مزيفة بالتأكيد”، قبل أن يستدرك: “أو بالأحرى، إنها حقيقة مزورة”. بمعنى آخر، فإن هذه الرسالة المزعومة مزيفة طبعاً، لكنها تحمل شيئاً من الحقيقة، إذ أتاحت الفرصة لتوجيه الرسالة التالية للرأي العام التونسي الرأي والعواصم الأجنبية، بدءاً بالجزائر وموسكو: بود تونس أن تتصرف بطريقة مغايرة، لكنها لا تستطيع التخلص من الضغط الغربي. وفي الأثناء، يزعم مسؤولون أن قيس سعيد سيزور موسكو قريباً. متى؟ لم يعلن بعد عن أي تاريخ، لكن السفير التونسي في موسكو أكد أن هذه الزيارة ستتم “بمناسبة المشاركة المتوقعة لرائدة فضاء تونسية في مهمة تقلع من روسيا، إلى محطة الفضاء الدولية”.
إن تونس في حاجة ماسة إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي لتحقيق توازن ميزانيتها، وهي تعاني في الوقت نفسه من العواقب الاقتصادية للحرب بين أوكرانيا وروسيا. وتميل الكفة التونسية -كما هو الحال بالنسبة للجزائر والمغرب- أكثر نحو موسكو، التي تزود تونس بالمحروقات وبالمنتجات البتروكيماوية التي يحتاجها البلد، بينما تمثل أوكرانيا أساساً مصدراً للحبوب. وبعد تعليق استيراد القمح من البحر الأسود، اعتمدت السلطات التونسية في البداية على الهند، لكن موجة الحر في هذا البلد دمرت جزءًا من المحصول. صحيح أن أوروبا، خاصة فرنسا، تقدم حلاً محتملاً لإمدادات الحبوب، ما قد يساعد على درء مخاطر انتفاضة الخبز التي يخشاها العديد من التونسيين، حيث يقارن البعض الوضع الحالي بما شهدته المنطقة نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ولكن يبقى السؤال ما إذا كانت هذه الشحنات المحتملة ستقترن بشروط سياسية وبالالتزام باعتماد عقوبات ضد روسيا.
لا يرحب قطاع السياحة، الذي تضرر بشدة خلال العامين الأخيرين بسبب انتشار “كوفيد -19” والذي يخشى ألا يتم فتح الحدود البرية في الوقت المناسب للسماح لملايين الجزائريين بقضاء عطلتهم الصيفية في تونس، باحتمال تبني عقوبات ضد روسيا. ويخشى العاملون في هذا القطاع عزوف السياح الروس. وحتى نهاية نيسان (أبريل)، كان أمل أصحاب الفنادق بقدوم 600 ألف سائح روسي لإنقاذ موسم الصيف قائماً، لكن استبعاد روسيا من شبكة الدفع لجمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك “سويفت”، يعني أن قدومهم بات مرتبطا بإمكانية استخدام نظام الدفع ببطاقة “مير” الذي يديره البنك المركزي الروسي. ما يعني المخاطرة بمخالفة العقوبات المفروضة على موسكو من قبل الاتحاد الأوروبي، وخاصة من قبل الولايات المتحدة.
عدم الانحياز لأحد من الخصمين
بينما تحرص الحكومات المغاربية على عدم اتخاذ موقف واضح لصالح روسيا أو أوكرانيا وأنصارها الغربيين، فإن الرأي العام في هذه البلدان أقل ترددًا. فبصرف النظر عن بعض الاستثناءات الملحوظة، نادراً ما نجد دعماً صريحاً لكييف. وفي كثير من الأحيان، يُرفض الانحياز لأحد من الخصمين. كما أن حجة احترام القانون الدولي لا تُقنع أحداً، بل يتفق أغلب المعلقين على الموضوع على التنديد بـ”سياسة الكيل بمكيالين”: لماذا وجب التنديد بغزو أوكرانيا، في حين أن المجتمع الدولي لم يندد بغزو العراق في العام 2003، ولم تتم أبداً محاكمة المسؤولين عنه -أي جورج بوش الابن وزمرة المحافظين الجدد؟ وماذا عن الفلسطينيين الذين ما يزال الاحتلال الإسرائيلي يدوس حقوقهم؟ ذاكرة الشعوب في المغرب العربي كما في المشرق طويلة، ولم تنس وعود جورج بوش الأب الكاذبة بـ”نظام دولي جديد” بعد هزيمة العراق في حرب الخليج الأولى، ولا تغيير وجهة قرار الأمم المتحدة لإسقاط نظام معمر القذافي في العام 2011.
تلعب الحرب على أوكرانيا دور الحدث الكاشف، إذ أظهرت آراء عربية لا تخفي استياءها من الغرب الواعظ الذي يتبنى سياسة الكيل بمكيالين، لا سيما عندما يستقبل اللاجئين الأوكرانيين برحابة صدر، بينما يطارد السوريين والأفغان والأكراد والصوماليين، بل ويرحل بعض هؤلاء إلى رواندا. صحيح أن الاستطلاعات نادرة -إن لم نقل منعدمة- لكن متابعة ما يتم نشره ومشاركته باللغتين العربية والفرنسية على شبكات التواصل الاجتماعي الرئيسية -أي فيسبوك وتويتر- يترجم عن هذا الشعور. كما تتم مشاركة أطروحة شن روسيا الحرب على “النازيين” بكثرة، لتبرير غزو أوكرانيا، إلى جانب حجج فلاديمير بوتين التاريخية الذي ينفي أي وجود تاريخي لأوكرانيا. وهكذا، أصبحت روسيا صاحبة كل المزايا، ونُسيت الجرائم التي اقترفها جيشها خلال حربي الشيشان -على الرغم من كونها أرضاً مسلمة- أو أعيدت كتابتها على ضوء المعركة الضرورية ضد الجهادية.
كما يتم تقديم الحجة نفسها لتبرير الوضع السوري، حيث يشار قبل كل شيء إلى المسؤولية الأوروبية والأميركية. ماذا عن جرائم الحرب التي ارتكبها الجيش الروسي في بوتشة؟ إنها مجرد فبركة من الإعلام الغربي الذي سبق وزيف الأخبار حول الوضع في حلب، حيث أصبحت روسيا أصل الداء. من المسؤول إذن عن الفوضى الحالية؟ في سورية كما في أوكرانيا، يبدو أن الجاني الوحيد هو الناتو، الذي يقوم بتحريك الفاعلين على الساحة بعيدا عن الأضواء، والذي أجبر روسيا على التدخل بشكل شرعي للدفاع عن نفسها. ويتم التذكير دائما بتدمير الناتو لليبيا التي ظلت إلى اليوم منقسمة وتعيش تحت وطأة الميليشيات والفصائل. وتقول إحدى مستعملات شبكات التواصل الاجتماعي التي ما تزال تتمنى انتصار بوتين على “الغرب الاستعماري”: “عندما ينشب صراع في مكان ما، أتحقق أولا من مشاركة الناتو فيه من عدمها. وإن ثبت الأمر، فإني أختار دعم المعسكر المعارض على الفور”. وقد تظهر الحجة نفسها بشكل آخر، حيث يتم اتهام “مثقفي” الإعلام الفرنسي مثل برنارد هنري ليفي بدعم المعسكر السيئ وسعيهم الدائم لإضفاء الشرعية على تصرفات الناتو.
منذ استقلالها وانشغالها بتقربها من الاتحاد الأوروبي -أو بعلاقتها المضطربة مع روسيا- أهملت أوكرانيا المغرب العربي وبشكل أعم العالم العربي، باستثناء دبي التي تُبهر الأوكرانيين، ومجمعات شرم الشيخ السياحية في سيناء، ولو بدرجة أقل. أما روسيا بوتين، فقد باتت خصماً جدياً للغرب الذي يلام بكثرة في المنطقة. صحيح أنها لا تمثل في الواقع بديلاً سياسيا -خلافاً لما كان عليه الاتحاد السوفياتي السابق- وأن طريقة العيش الروسية لا تستقطب المهاجرين، حتى لو التحق مئات عدة من طلبة شمال إفريقيا بالجامعات الروسية، لانعدام فرص أخرى. لكن المهم، كما عبر عن ذلك صحفي من إذاعة تونس في 23 آذار (مارس)، هو أن يجد الغرب في مواجهته منافساً قوياً يجب أن يحسب له ألف حساب.
نداء ضد التيار
لا يسعى خطاب زعماء البلدان المغاربية الثلاثة إلى تغيير هذه النظرة. وبعيدًا عن السياسة الواقعية، لا يوجد أي أثر للتعاطف مع الشعب الأوكراني، بل ولا يتم أبدًا إدانة الغزو الروسي بصريح العبارة. وحتى لو تم ذلك، فلن تكون نتيجته سوى تعزيز الشعور المؤيد لروسيا. في هذا السياق، فإن الدفاع عن الشعب الأوكراني ليس بالأمر السهل. ومنذ منتصف نيسان (أبريل)، تم تداول نداء بلغات عدة، وقعه عدد من الصحفيين والمثقفين العرب الذين يدعون إلى “دعم الأوكرانيين بلا حساب أو تحفظ”، وجاء فيه:
“إننا نعي جيّدا المسؤولية الجسيمة للقوى الغربية الكبيرة والصغيرة في تدمير عالمنا. وقد شجبنا الحروب التي خاضتها هذه القوى لضمان استدامة هيمنتها على مناطق شاسعة، بما في ذلك منطقتنا، كما شجبنا دفاعها عن ديكتاتوريات لا يُمكن الدفاع عنها، لا لشيء إلا لحماية مصالحها. إننا نعلم استخدامها الانتقائي للقيم التي تدّعي حملها، إذ تترك لاجئي الجنوب يموتون على أبوابها بينما ترحب بـ”لاجئيها” برحابة صدر. ولكن دعونا لا نخطئ في كفاحنا. كل من يطالب بالحرية لنفسه، ويؤمن بحق المواطنين في اختيار قادتهم ورفض الطغيان، عليه اليوم أن يقف إلى جانب الأوكرانيين. يجب الدفاع عن الحرية في كل مكان”.
تم انتقاد هذا النص بشدة على وسائل التواصل الاجتماعي، حتى أن بعض منتقديه قدموه كبيان موالٍ للناتو. ويعترف الأكاديمي علي بن سعد، أحد المشاركين في تحريره، قائلاً: “إنه منبر ضد تيار الآراء العامة الموالية لروسيا. وهي طريقة أيضا لتحمل المسؤولية”.
 
*ترجم هذا المقال من الفرنسية لـ”أوريان 21″ حميد العربي.