عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    02-Dec-2025

أصواتٌ تأتي من جهة الضوء*رمزي الغزوي

 الدستور

لم نكن مستعدين لهذه اللحظة؛ اللحظة التي تقف فيها أمامنا آلة لا تشبه آلات القرن الماضي، بل تشبهنا نحن، وتجرؤ أن تكتب وتفسّر وتلمس مناطق كنا نظنها حكرا على ارتجاف الإنسان. كأن الذكاء الاصطناعي امتدادٌ خفيّ لجرأتنا القديمة على اختبار حدودنا، لكنه أيضا مرآة قاسية تكشف ضعفنا بينما نظن أننا نمتطي صهوة السيطرة.
فالآلة لا تخطئ ولا تحزن ولا تتردّد، بل تمضي بصلابة باردة عبر الأرقام والاحتمالات. وهذا بالضبط ما يجعل حضورها مربكا. لأن الإنسان بلا خطأ مجرد ظلّ طويل، وبلا جهل جميل لا يبقى له ما يبحث عنه، وبلا خوف صغير لا تبقى له شجاعة. نحن مخلوقات صاغتها العثراتُ، وكل ما هو أصيل فينا وُلد من منطقة التردد، لا من كفاءة مطلقة.
ومع ذلك، يجتاحنا هذا الحضور الجديد بسحره. نشعر أنه قادر على حمل أعباءنا الثقيلة، وعلى ملء فجوات معرفتنا، وعلى أن يقدّم لنا نسخة مصقولة من ذواتنا المرهَقة. وربما لهذا السبب تحديدا نخشى أن ينجح أكثر مما ينبغي. نخشى أن يتسلّل إلى طبقات وعينا، وأن يعيد تشكيل طرق تفكيرنا ورغباتنا كما يعيد المبرمج ترتيب شيفرة منطقيّة.
ثمّة قوة ناعمة يمارسها علينا. خوارزميات تحدّد ما نقرأ وما نرى وما نرغب فيه، بينما نتوهّم أننا نختار كل شيء بإرادة عاقلة. ولم ننتبه، وسط هذا الانبهار، أن السلطة الكبرى الآن ليست في يد من يفكر، بل بيد من يوجّه التفكير. ومن يملك الخوارزميات يملك المعنى، أو هكذا يبدو المشهد حين نراه من بعيد.
ومع ذلك، وسط هذا القلق، ثمّة بصيص ضوء. قد لا يكون الذكاء الاصطناعي خصما لنا، بل هو امتحان جديد لوعينا. فالمرآة لا تصنع الوجه، لكنها تكشف ما خفي فيه وعنه. وهذه الآلة ستعيد إلينا سؤالا  طالما كنّا نهرب منه: ما الذي يجعلنا بشرا حقا؟ القدرة على المعرفة، أم القدرة على الشك؟ على التحليل، أم على التأمّل؟ على الإجابة، أم على طرح السؤال الذي يمسك برقبة الليل؟
إننا نقف اليوم أمام لحظة مفصلية. فإما أن نترك التقنية تعيد تشكيلنا كما تشاء، أو نعيد نحن تشكيل علاقتنا بالعالم، وبأنفسنا، وبأسئلتنا التي لا تنتهي.
فهل نملك الشجاعة لهذا؟ وهل نحن مستعدون لسماع الأصوات التي تأتي من جهة الضوء  لا من جهة الوهم؟