عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    06-Oct-2018

أن تولد لاجئاً ابن لاجئ وتنجب لاجئين*سمير الزبن

 الحياة-خرج أبي من فلسطين في نكبة عام 1948 في الخامسة والثلاثين من عمره، وكان لديه خمسة أطفال في ذلك الحين، ورزق في مخيمات الشتات أربعة آخرين، كنت آخرهم. منذ وعيت على الدنيا كان أبي يردد القول: «أنا أعرفهم، اليهود جبناء (يقصد الصهاينة بالطبع)، وأستطيع أن أهزم أي واحد منهم في عراك». كان أبي ضخم الجثة صاحب قوة هرقلية، هذه القوة جعلته محافظاً على صحته حتى وفاته في التسعين.

 
 
وأنا طفل، فكرت طويلاً في كلام أبي، وفي مطلع شبابي سألته: «إذا كانوا جبناء وفعلوا بنا ما فعلوه، فأي حال كنا سنصل إليه لو كانوا شجعاناً؟!» حينذاك، أربك السؤال أبي العجوز، ولم يجد كلاماً يرد به.
 
خلق «اليهود الجبناء!» مشكلة لأبي ولنا ولأولادنا من بعدنا، وحولتنا تلك المشكلة إلى لاجئين أباً عن جد، عقداً بعد عقد. فأبي المولود في عام 1913 والمتوفى في عام 2003، كان يحاول أن يلتف على هزيمة سحقت المجتمع الفلسطيني وفككته وطردته خارج وطنه، بأجوبة تبسيطية تساعده على احتمال حياة اللجوء القاسية. لم يدرك أبي (أو لم يرغب في الإدراك عن قصد) أن الصراع الذي كان يدور على الأرض الفلسطينية والذي شهد كل مراحله تقريباً، لم يكن «عراكاً شخصياً في حارة القرية»، إنما هو مشروع اقتلاعي يستهدف الأرض الفلسطينية، تم العمل عليه بطريقة منظمة وبتواطؤ من كل العالم تقريباً.
 
حلم أبي طوال سنوات عمره أن يعود إلى بلدته في سفح جبل الكرمل، ليتأمل تلك المغارة التي خبأ فيها حزم القمح التي حصدها بيديه العاريتين كي يبدأ مساره الطويل إلى منفى لم يرجع منه. أمضى عمره ينتظر هذه اللحظة، لحظة تأمل كومة سنابل القمح أو مكانها في الأقل. كان يعرف أنه إذا عاد لن يجد قمحه، لكنه حلم باستعادة اللحظة. عندما سألته قبل وفاته بسنوات قليلة، هل هو نادم على تلك الليلة التي أمضاها في حصاد القمح بيديه من دون منجل، والتي جعلته يعجز عن جلب الأشياء التي طلبتها منه أمي، حيث عاد خالي الوفاض وبيدين مدمّمتين، قال: «لم أندم على ما فعلته تلك الليلة، بل كان هذا أفضل ما فعلت في حياتي، إنه قمحي». قال الكلمتين الأخيرتين بالكثير من المرارة.
 
طوال سنوات اللجوء لامت أمي أبي على الخروج من فلسطين، كانت تقول له: «لو سمعت كلامي، وبقينا في بلدنا لعشنا مع اليهود وهذا أفضل من العيش مع العرب»، وكان أبي يلوذ بالصمت. الأكثر تأثيراً في تجربة أمي وسبّب لها غصة عميقة، كان تجربة الأونروا والوقوف في صف طويل لتلقي المساعدات. اعتبرت ذلك ذروة الإذلال: امرأة تعيش في قرية من عائلة مكتفية مع قليل من الغنى، فجأةً تجد نفسها تبحث عن قطعة من قماش خيمة لتغطي بها طفلها الرضيع كي تدخل أوديستها الخاصة والمؤلمة، ولولا تلك المؤسسة الدولية، وعلى رغم عيوبها، لكانت زادت معاناة اللاجئين الفلسطينيين أضعاف معاناتهم التي شهدوها طوال تجربة اللجوء القاسية. فقد حلت الأونروا للاجئين الفلسطينيين، ثلاث مشكلات ضروريات: الغذاء، التعليم، الصحة.
 
أتذكر معاناة أمي وأبي بعد دراما اللجوء التي مرّرنا بها. لاجئون يلجأون من بلد لجوء إلى آخر. نحن، اللاجئين الذين ولدوا في المنافي، لُمنا أهالينا على لجوئهم السهل إلى الدول العربية (أهلي لجأوا إلى دمشق). وعندما تعرضنا إلى التجربة ذاتها، سرعان ما هربنا لاجئين من جديد. من حسن حظنا أننا وصلنا إلى الدول الأوروبية وليس إلى الدول العربية. فأنا الذي ولدت في دمشق لاجئاً لأبوين لاجئين وأمضيت جل عمري في تلك المدينة، أنجبت فيها أولاداً لاجئين أيضاً.
 
اليوم، في تجربة اللجوء الجديدة، كفّ أولادي عن كونهم لاجئين، لقد استحقوا المواطنة السويدية بعد الإقامة أربع سنوات في هذا البلد، لكن من عاش مرارة اللجوء، لن يمنحه جواز السفر إحساس المواطنة، فاللجوء يسم أرواحنا بمتاعبه.
 
* كاتب فلسطيني