عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    30-Aug-2020

الحس التاريخي في رواية «صديقتي اليهودية» لصبحي فحماوي

 

أ.د. عبد الرحيم مراشدة
 
الدستور- لنبدأ بالسؤال لماذا الحس التاريخي، ومدى فاعليته في النص الإبداعي، والروائي بشكل خاص؟ ويمكن إبداء الرأي حول هذه المسألة، لانطواء الرواية موضوع هذا البحث على أبعاد تاريخية مهمة وناضجة، ولما لها من أثر في ذاكرة المتلقين، من الحضارتين العربية والغربية بخاصة. وكما نعلم فإن التاريخ غالباً، عبر مراحله وتحولاته، قد يجري تسييسه وفق الظروف والأزمنة والحريات، ولن نخوض في الأمثلة هنا، بقدر ما يجري التعامل مع التاريخ الذي تم استجلابه لهذه الرواية بوصفها عملاً إبداعياً له استراتيجياته وخطابه.
 
النص التاريخي يمكن التعامل معه من قبل الروائي والمبدع، وله أن يتصرف بمعطياته بشروط، وفق مسار لا يخرجه عن جوهر المسألة التاريخية.. « للروائي أن ينحرف عن وقائع التاريخ – تبعاً لاختياراته وما يخدم نصه ــ وأن يتصرف في شأنها، مع المحافظة على الحس التاريخي، وأن مسؤولية الروائي التاريخية نحو أدبية العمل مهمة، وليس تجاه الوثائقية؛ لأنه بمجرد أن يُدخل التاريخ إلى الأدب يصبح عنصراً أدبياً، فالروائي يخلق توقعات تاريخية، ويمكن له سد الثغرات التاريخية بما يحلو له من تفاصيل، والروائي يتمتع بحرية في إبراز رؤيته دون حاجة إلى تبرير»(14) (ونضيف شريطة أن يكون الروائي واعياً لممكنات السرد الروائي، وحدود هذه الممكنات، حتى لا ينزلق في دائرة الكتابة التاريخية ويغدو العمل وثيقة تاريخية، أو خارج العمل الإبداعي الأدبي.
 
رواية صديقتي اليهودية تنطوي منذ العتبة الأولى، وعبر لوحاتها النصية المتنوعة، التي تأتي عنواناتها جميعاً بترقيمات تاريخية، تتماهى مع الرحلة السياحية ظاهرياً، والمشبعة بكثير من الحس السياسي، والتاريخي، والاجتماعي العميق. نقول: ذلك لمدى التوظيف لشخصياتها المثقفة الواعية للزمان والمكان والواعية للذات والكون والحياة، وأعني هنا الشخصيات المركزية، والفرعية التي تأتي مساندة للشخصية المركزية جمال قاسم، وما يمر بها من أحداث وظروف وطقوس.
 
لقد حاول فحماوي الاعتماد على شخصيات تتسم بثقافة لافتة، مفكرة، ولديها مرجعيات مهمة، تتعالق مع الموضوع الأساس للرواية، وهو مناقشة مأساة الشعوب، عبر وجودها وتاريخها وحضارتها، خاصة الشعوب المقهورة، وبالطبع جاء التركيز على مأساة الشعب الفلسطيني عبر مسيرته النضالية، ومسيرة الشتات، في عالم لا يرحم، ولا يعتدُّ بالقيم والأعراف، وهناك مسائل في التاريخ، والتي لها ظلال إيديولوجية، كان الراوي أحياناً لا يسندها إلى شخصية من شخصيات الرواية، وإنما كان يتعامل معها كسارد عليم، ويبث معلومات مهمة في تاريخ العرب والمسلمين، وصولاً إلى إضفاء وجهة نظر معينة أمام الشخصية يائيل آدم، التي راحت بتدرج تتفهم بعض وجهات النظر عن الكنعانيين والفلسطينيين وعن العرب بشكل عام في العصر القديم والحديث.
 
النص الروائي الذي بين أيدينا، يستثمر بشكل لافت المسائل الحساسة في التاريخ والسياسة المعاصرة، ولنا أن نلتفت هنا إلى وعي الروائي، من حيث قدرته على التوظيف لهذا المنحى، دون أن يُخل بالمعمار الفني للرواية؛ فنجده يعرض لبعض المحاور السياسية الحساسة عبر الحوار بين الشخصية المركزية والصديقة اليهودية (يائيل)، أو عبر الحوارات الأخرى وما تتناوله من أحداث، وبعض الشخصيات الأخرى المرافقة عرضيا للشخصية المركزية التي يلتقيها عبر الرحلة، ومنهم مثلا استذكار جمال قاسم للحوار التاريخي والسياسي الذي جرى بينه وبين السفير الأوروبي في زيارة سابقة، ويستذكر في الحوار نفسه اعتراض المرأة، زوجة السفير، على مضامين الكلام المشبع بإيديولوجيا، ونختار السياق التالي للتمثيل:
 
«هذا ما قاله لي سفير أوروبي ذات ليلة وهو يزورني في بيتي مصطحباً زوجته في سهرة: لماذا وجه نبيكم محمد فتوحاته باتجاه خضرة بلاد الشمال، وجعل القدس قبلة المسلمين؟ فوجئت ليلتها بذلك السؤال، الذي لم أسمع مثيلاً له، ولم أُحضِّر نفسي للرد على مثل هذه الـ... لم أعرف كيف اجيب، فوجدت نفسي أجيب مندهشاً» (15) مثل هذا القول يعطي تعريفاً بشخصية السفير الأوروبي، وتبعه بأفكار لها مرجعيات غربية وصهيونية عن الفكر الإسلامي، ومحاولة للنيل من التاريخ والحضارة والتراث المتعلق بالإسلام، من هنا كانت الدهشة لدى الشخصية المحاورة له، وهي جمال قاسم.. لكن هذا الأخير كان متسلحاً ثقافياً بفكر مضاد، ويستند إلى مرجعيات ثقافية متنوعة، ولهذا جاء رده بعد الدهشة بما يمليه عليه ضميره وقداسة الهوية التي ينتمي إليها.
 
يظهر من خلال الإجابة سعة اطلاع الإنسان الفلسطيني على تاريخه الذي يمثل أساس وجوده مقابل الوجود الطارئ للمحتل، ولهذا ياتي السياق التالي، بقوة وعلمية تصلح لمثل هذه المواقف: «هذا يعني أن الإسكندر المقدوني، والقياصرة الرومان، وهولاكو، ونابليون، والصليبيين، والاستعمار الغربي، والصهاينة، كلهم كانت عندهم عقدة كراهية الخضرة، فراحوا يبحثون عن التصحر، وهم يتوغلون في غزواتهم لبلاد العرب» (16) كانت هذه الإجابة صادمة بالتأكيد للسفير، الذي تظهر عنده فكرة الصهينة بشكل واضح، وتشبعه بأفكار مختلطة وملتبسة، كما هي شخصية اليهودي الجسدية والفكرية التي تشبه اليونكون، بحيث أصبح السفير في كلامه من هذا الوصف، معنوياً وفكرياً على الأقل، يقع تحت سلطة مهيمنة الجنس والعرق لغير الغربي، وعقدة الآخر بالنسبة له.
 
هنالك حدثان وردا في سياق الرواية يكتسبان أهمية تقنية وأهمية دلالية في الوقت نفسه، وتم استثمارهما في توكيد الترسيخ لمفهومات تعتبر مؤثرة في شهية القارئ، وفي لينبني عليها بعض التحولات في مسار المفهومات المسبقة عن فلسطين وعن العرب وتاريخهم وتراثهم. ومثال ذلك: ما جاء في الصفحات الأولى من الرواية والذي يتبدى من حديث الشخصية المركزية للوهلة الأولى مع جارته في المقعد التي سيتبين أنها من ديانة يهودية ومن أصول لا تمت لفلسطين بصلة، من المانيا، ويحاول الراوي ان يبث عبر الحوار معلومات تهيء المتلقي لكلام له دلالات عميقة في تاريخ الساميين والعرب والأصول التي جرى تزييفها واللعب بها. ففي الحوار التالي وما يرد على لسان جمال قاسم المتداخل مع كلام الراوي:
 
«انا عربي من الأردن، وأعمل في عالم الحدائق، ولقد استغللت إجازتي السنوية بزيارة بعض المعارض الزراعية والمشاركة في هذه الرحلة الأوروبية.. تحاول يائيل أن تتمالك نفسها، أمام صدمتها بجيرتي السياحية ن ولكنها تتصرف معي وكأن لا شيء يهمها ، فتقرر تمثيل الدور بأفضل ما يمكن: حقيقي أنت عربي ؟ ! يا إلهي! حدثني إذا عن البابليين وعن الاشوريين، عن إيوان كسرى، وعن نبوخذ نصر، وعن الجنائن المعلقة» ( 17 )، فيرد عليها: « لا أملك الكثير من التفاصيل عن الأشوريين، والبابليين، ولا عن نبوخذ نصر. فقط أعرف ان بابل هي باب (ال) وأن (ال) هو إله الكنعانيين. أي إن بابل عند البابليين هي بوابة الكنعانيين وهي باب الله.. يزداد انتباهها لحديثي فتضع يدها تحت ذقنها..» (18) .
 
مثل هذا الحوار يشير إلى مسائل تمهيدية ويشكل قاعدة معرفية جاذبة للآخر الذي لديه أفكار مشوهة من التاريخ، وهنا تكمن قدرة الروائي فحماوي على اقتناص واختيار لقطات تشكل حفريات معرفية من شأنها أن تعيد المعارف التاريخية في ذهن الآخر وتخلخل المعرفة المسبقة، ثم إن الروائي هنا أحسن صنعاً عندما اختار من شخصياته شخصيات نخبوية مثقفة، تعي دلالات القول وأبعاده، ولها تأثير في تحريك بنية التفكير الجمعي، لهذا يأتي الراوي على لسان الشخصية بسيرة الكنعانيين؛ الجذور الأولى لساكني فلسطين وللأصول العربية القديمة ولجذور السامية.. كل ذلك ليخترق الرؤى السائدة عند الآخر ويصدمه بحيث يعيد تفكيره ويصحح مسار رؤاه. وبالتالي يهيئ القارئين لما يمكن أن يكون ويتابع بشغف مجريات احداث الرواية التي راحت تعمل على كشف أمور تحتاج بإلحاح إلى الكشف، للوصول إلى الحقيقة.
 
لم يكتف الروائي بهذا فقط وإنما ذهب إلى أن يأتي بأمثلة من شخصيات يفيد من رأيها، وهذه الشخصيات غربية وحتى من الديانة اليهودية، ليعمق الحفر في ذهنية الآخر، أي يجيب على هذه المسائل الشائكة من ألسنتهم، فيستشهد بالفيلسوف والعالم الامريكي المعاصر من أصول يهودية عند قوله: « قال المؤرخ الفيلسوف اليهودي الأمريكي (نعوم تشومسكي) : إن نبوخذ نصر لم يسبِ يهوداً، وإذا كان فعلها، فقد يكون سبى قادة فلسطينيين كنعانيين معارضين لخضوع بلاد الشام لإمبراطوريته ..» (19) مثل هذه المقولات تحمل المتلقي على إعادة النظر في كثير من الآراء التي يجري تسريبها وتزويرها، إضافة إلى استشهاد الروائي بعالم التاريخ والآثار فاضل الربيعي. وكل ذلك يبين بان الكنعانيين هم الأصول الأسبق للوجود على أرض فلسطين، واسند الحقيقة التاريخية بحقيقة من تحولات اللغة التي تخدم هذا المسار، في إشارة الروائي الذكية إلى تفصيلات كلمة (بابل) في مرجعياتها اللغوية والتاريخية عند الأشوريين، وما تعنيه عند الكنعانيين في بلادهم، لكونها آلهة لهم.
 
وتعميقاً للمسألة التاريخية، المشبعة بالحس السياسي المعاصر والقديم، يأتي الروائي على مجريات للرحلة في هولندا، ومن ثم أحداث تاريخية بعينها كتاريخ الأندلس وما واكبه من تهديم لتراث العرب والمسلمين هناك، وكيف جرى قلب الحقائق. هذا الإصرار على اختيار قصدي لأحداث بعينها يوضح يشكل ملمحاً لافتاً في الرواية، ويُظهر سعة اطلاع الروائي على التاريخ العربي والإسلامي منذ الجذور الأولى، واطلاعه على أنساق ثقافية مهمة تخدم خطاب النص الروائي الذي بين أيدينا.
 
يرد في مجريات الرحلة في يوم: اللوحة الموسومة عنوانا بـ (16/6/1993)، التبيان لكره الغربي للعربي، منذ اللحظات الأولى لعبور السياح ومن ضمنهم العربي جمال قاسم، ليصطدم بشرح تفصيلي لصاحب مزرعة من آلاف الدونمات في هولندا، وهو يشرح للسياح عن مزرعته، بكلام يشي بالضغينة والحقد على العربي، مثلما جرى في مطلع الرحلة عندما أتى الحديث على ذكر صدام حسين في مطلع الرواية، ولكن هنا الحديث لا يتخذ مسار الكلام على الإرهاب العربي الإسلامي، الذي يروج له الغرب فحسب، وإنما الحديث انصب على التمييز العنصري المقيت، وعلى مسألة العبودية للآخر من قبل الأوروبيين، ومن لف لفّهُم.
 
نجد في هذا اليوم الرحلي النص التالي:
 
« نتجه نحو منطقة مزارع بوسكوب، حيث الطريق أخضر والسهول واسعة شاسعة ..حتى نصل إلى مزرعة قالت لورا – الدليلة السياحية – إنها نموذجية، حيث يستقبلنا صاحب المزرعة... قال إن مساحتها تزيد على ثلاثة آلاف دونم، وإن فيها أكثر من عشرة ملايين من النباتات التجارية، معظمها نت صنوبريات الزينة، والتي يتم تصديرها عبر سوق (آلسمير الدولي) إلى مختلف بقاع العالم وذلك بمساعدة عمال عرب وأفارقة، الذين نستخدم كثيراً منهم بدون تصاريح أو إقامة، فلا تخضع أجورهم الرخيصة لقانون العمل.. يبتسم الرجل ساخراً وهو يقول: نحن نستخدمهم كثيرا في كل شيء ، فالعنصر العربي الإفريقي هو خير مستخدم لنا» (20). يتضح هنا مدى الامتهان للجنس غير الأوروبي واستخدام العرب والأفارقة كما لو أنهم عبيداً.. حتى أن الراوي راح يلمز في نهاية النص بقضية البخل الشديد عند صاحب المزرعة الأوروبي، الذي لم يقدم لهم ولو فنجان قهوة.. واكتفى بالتوديع. لكن الحدث الأكثر توضيحاً لمسألة التاريخ الذي جرى ويجري تزويره، هو الحديث عن قصر الحمراء في غرناطة ومسجد قرطبة، كما في السياق التالي:
 
«بناء على ذكر العلاقات الأوروبية العربية، تستفسر يائيل مني عن ثقافات ما تزال تقلقها، فتسألني قائلة: هل زرت الأندلس التي كانت لنا نحن العرب واليهود ذكريات مشتركة فيها يا جمال؟ - فيرد عليها- نعم زرتها قبل ثلاث سنوات، كانت الجنة هناك وما تزال، إذ تشاهدين قصر الحمراء بهندسته المعمارية في غرناطة ومسجد قرطبة، وقصور إشبيلية، ومساجدها التي صارت كنائس ..الحدائق الأندلسية الهندسية الأشكال، التي صار اسمها حدائق فرنسية.. وغيرها من المعالم الحضارية المدهشة..»(21).
 
هذه النصوص وغيرها في الرواية، تقدم جوانب مهمة من الخلل الذي يقع في بنية تفكير الغربي عن العرب، ويجري بشكل ممنهج طمس المعالم التي لها علاقة بالحضارة العربية الإسلامية، والإعلاء من شأن الحضارات الأخرى، على حسابها، كما جرى من تحويل المساجد إلى كنائس، حتى الدليل السياحي يكذب عندما يقدم معلومات عن الآثار للسياح إذ يحاول إخفاء التاريخ العربي الإسلامي وتميزه، وهذا ما يقدمه الراوي بشكل جيد، يكون بمثابة الناقد لما يجري من تزوير التاريخ، لا سيما وأن الغرب يقف قلبا وقالباً مع الروايات الصهيونية حول الآثار العربية أينما كانت، في محاولة للتشويه.