عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    24-Oct-2021

“المرأة حكاية هذا العالم”.. في رواية “جسر عبدون” لقاسم توفيق

 الغد-مجدي دعيبس

 في صفحة العنوان، كتب المؤلف “جسر عبدون” وتحته بخط أصغر وبين علامتي تنصيص كتب “أكثر من رواية”. ولو شاء لجعل من هذه الرواية روايتين دون عناء يذكر، لكن غرض قاسم توفيق كان أبعد من مجرد روايات تنضم لذيل القائمة الطويلة لديه.
كان يبحث عن رواية فسيفسائية برؤية متشابكة تعكس حال التعقيد الذي تسرب إلى المشهد الذي نعيشه ونعاينه كل يوم. هي محاولة جادة للإحاطة بما يؤرقنا ويثقل كاهلنا في هذا الزمن المر وهذه الحياة المستعصية على الفهم والإدراك.
في صفحة التصدير يقربنا خطوة أخرى من أجواء الرواية عندما يؤكد حقيقة بسيطة: أننا كلنا خطأة وكلنا أبرياء في الوقت عينه.
جاءت الرواية في جزأين؛ الأول بعنوان “أوطان صغيرة”، والثاني بعنوان “أوطان مهشمة”، وما اختار الكاتب هذه الصفة إلا ليدلل على تشتت الشخصيات ومعاناتها وتفتت دواخلها. وجاء تحت كل جزء عناوين فرعية تعطي القارئ تلميحا وأحيانًا تصريحًا بما يلي من سرد وأحداث. كان السارد العليم مسيطرًا على العناوين الفرعية في الرواية الخارجية، إن جاز التعبير، بينما كان ضمير المتكلم من تولى عملية السرد في الرواية الداخلية وعلى لسان بطلها أو الشخصية الرئيسة فيها وهو عادل سليمان.
ظلت شخصيات الرواية على مدار (350) صفحة تعاند أقدارها وتبحث عن طريق للخلاص ومخرج من المأزق الذي وجدت نفسها عالقة فيه. شخصيات متشظية تحاول لملمة أجزائها للوقوف في وجه الحياة النكد. تمر بأزمات حادة تزلزل كيانها وتدفعها إلى تخوم بعيدة عن نقطة الاتزان النفسي والاجتماعي، تجدف ضد تيار ماء لا يرحم، ولا ينظر في وجوه من يقعون فيه لأنهم مجرد أجسام تخضع لقوانين الفيزياء المجردة من المشاعر والأحاسيس.
لنبدأ بعادل سليمان، وهو بطل الرواية الداخلية وعنوانها “الانحدار”، والمؤلف هو إحدى شخصيات الرواية الخارجية ويدعى رائف الساقي. أزمة عادل هي الخلاص من تجبر أبيه والبحث عن حياة جديدة لا يكون الأب أو العائلة أو الماضي كله جزءاً منها.
نوح العكاوي ابن آدم العكاوي صاحب مطبعة العكاوي ولد وعاش في عمان، لكن ذكرياته التي لم يعشها في فلسطين ظلت تلاعب خياله. حرب 67 شكلت جرحًا غائرًا في وجدانه. أزمة نوح هي البحث عن وطن يشعر فيه أنه مواطن من الدرجة الأولى وليس الثانية أو الثالثة. ولعل العنوانين المشار إليهما سابقًا؛ “أوطان صغيرة” و”أوطان مهشمة” يشيران إلى تجربة نوح بطريقة أو بأخرى. أوطان صغيرة هنا وهناك، وعندما وجد هذا الوطن أخيرًا في زوجته فلك، ماتت سريعًا وتركته على قارعة الحياة مهشمًا يعاند الذكرى.
رائف الساقي الشاب الذي اهتز من الداخل ولم يعد يحتمل الاكتئاب والسوداوية التي سيطرت على مشاعره. ينتمي لأسرة متماسكة وهو الأصغر بين أشقائه وشقيقاته. أزمة رائف هي البحث عن السلام الداخلي الذي لم يجده في حب سارة ولا في عطف أمه ولا في كتابة الرواية “الانحدار” التي ظن أنها ستعينه على تجاوز المرحلة، لكنه وقف على جسر عبدون في المشهد الختامي ونثر أوراقها فتطايرت في الهواء حتى حطت على الأرض وسط دهشة الجميع، وكأنه يلقي عبئًا ثقيلًا أتعبه لسنوات طويلة.
وعند التطرق إلى الأزمات الأقل حدة نصل إلى أزمة سلافة المرأة متواضعة الجمال وعقدة الأب الذي هجر العائلة وتزوج من أخرى. أزمة يوسف أبو مطر صديق نوح وعبثية النضال السياسي. سلاسل تثقل كاهل الشخصيات وتضيق عليها ولا تمنحها فرصة للعيش والانطلاق في الحياة كما يجب أن تكون، خاصة عندما ترى الاختلال في كل شيء حولها.
لو تأملنا حضور المرأة في الرواية مقارنة بحضور الرجل لوجدناها نقطة إشعاع وعنصر بناء وأمل وتحد. فلك هذه المرأة التي تضج بالحياة والأمل والفرح والحرية، وجد فيها نوح المأزوم ملاذه الأخير. ترك أباه وأمه والمدينة التي نشأ فيها وضرب في بلاد الله الواسعة باحثًا عن وطن. تزوجها في بيروت وعاد إلى عمان ليجد أمه قد ماتت. أصبح يدير مطبعة أبيه التي تحولت بعد حين إلى دار نشر محترمة.
سلافة -مديرة دار النشر التي يمتلكها نوح العكاوي- صارعت الظروف الصعبة التي حاصرتها من كل اتجاه، قاومت ووقفت على قدميها لتعلن انتصارها المدوي على الحياة بالجد والاجتهاد والصبر، بينما كانت شخصية أبيها سلبية ومنهزمة.
سارة التي وقفت إلى جانب حبيبها رائف ولم تتخلّ عنه رغم معرفتها باضطرابه النفسي، قدمت كل شيء حتى تحافظ عليه، قدمت جسدها من دون زواج وقدمت وقتها وروحها وأعصابها، لكنه لم يقدر كل هذا.
سلاسة السرد كانت أمرًا لافتًا وكأن اللغة مادة شفافة تندغم في الحدث والوصف والحوار دون أن يشعر بها القارئ، الأمر الذي ينعكس إيجابًا على سرعة الجريان والتدفق، وخاصة أنها رواية طويلة نوعًا ما. لغة سردية رصينة فيها لمسات رقيقة وفاتنة، واستخدام ذكي لكلمات وأفعال متنحية، وفيها تجديد للعبارة الروائية من خلال خلط العامية، أو ما يُظن أنه من العامية، بالفصحى فيبدو الحوار قريبًا من اللغة اليومية لكنه لا يبتعد كثيرًا عن معاجم اللغة العربية في الوقت عينه.
الوصف أيضًا جاء في مواقف كثيرة مثيرا للإعجاب وثريا لغة ومعرفة، وقد لا يتسع المقام هنا للتمثيل على هذا الكلام وأترك للقارئ المجال لاكتشاف هذا الأمر بنفسه. لن يبتعد كثيرًا حتى يصل إلى عبارة مثل: قال مفزعًا طائر الصمت الذي نفض جناحيه بسرعة وطار.
النواحي المعرفية أصبحت من سمات السرد الحديث أو الرواية الحديثة، وجاءت الرواية زاخرة بالمعرفة على هذا الصعيد سواء تاريخيا أو جغرافيا أو اجتماعيا أو ثقافيا، ولا أنسى هنا أيضًا التأكيد أن العبارات التأملية ظلت تتراقص أمام القارئ كلما أفلت من طرافة الحدث ليتوقف قليلًا حتى يستوعب ما قرأ ويتدبره.
في الختام، أقول إن “جسر عبدون” رواية غنية وشاسعة، ومن الصعب الإحاطة بالنواحي الجمالية والأسلوبية واللغوية والفكرية والفلسفية التي وردت في قراءة واحدة، وإنما قصدتُ تقديم إضاءات على بعض ما شدني فيها، وأترك للقارئ اكتشاف عوالم الرواية بنفسه، وتحسس جمالية الأسلوب من التقديم والإرجاء وخلخلة خط الزمن وغيرها الكثير الكثير.