عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    16-Sep-2025

حين يحكم التاريخ لا اللحظة*د.عاصم منصور

 الغد

نلاحظُ  في حياتنا، على مستوى الأفرادِ والجماعاتِ والدولِ، أنَّ الصَّفح عن الغريبِ غالبًا ما يكونُ أسهلَ من الصّفح عن القريب، وهذه المُفارقة الإنسانيّة ليست مُجرّد نزوةٍ عابرة؛ بلْ هي انعكاسٌ لتشابُكٍ معقّد بين النفسِ والتاريخِ والهوية. فعلى المُستوى النّفسي، يرتبطُ القُرب العاطفيّ بتوقُّعاتٍ عاليةٍ واستثمارات وُجدانيةٍ عميقة، وحين يُخطئ القريب، نشعر أنَّ الجرح يمسُّ جوهرنا؛ فالخطأ هنا لا يكون مجرّد حادثة عابرة، بل يُستدعى معه تاريخٌ طويلٌ من الذكرياتِ والمواقف، فتتضخّم الزَّلةُ وتتحولُ إلى رمزٍ للخيانةٍ أو لخيبة أملٍ يصعُبُ تجاوُزُها. أمّا الغريبُ، فهو في الغالب صفحةٌ بيضاء، لا يحملُ في ذاكرتنا سِجلًّا من التّراكمات، ولا ننتظر منه الكثير، فيسهُلُ علينا أنْ نغفرَ له، لأنّنا لا نشعُرُ أنّ خطأهُ يُهدّد توازُننا الداخليّ.
 
 
مِن منظورِ علمِ النّفس الاجتماعي، هناك ما يُعرفُ بـ «تحيُّزِ الإسناد»، حيث نُفسِّر أخطاء القريبِ على أنها تعبيرٌ عن صفاتٍ جوهريةٍ فيه، بينما نميلُ إلى تفسيرِ أخطاءِ الغريب بأنَّها نتيجة ظُروفٍ عابرةٍ أو ضغوطٍ خارجية.
هذا التَّحيُّز يجعلُنا أكثرَ قسوةً في الحُكم على من نحبُّهم أو نرتبطُ بهم، لأنَّنا نرى في خَطئِهم تهديدًا لهُوِيّة العَلاقة نفسها. كما أنَّ التَّفاعل اليوميّ مع الأقرباء يَخلق حالةً من الاحتكاك المُستمر، فتتراكمُ المشاعرُ السّلبيةُ غير المُعالجة، وتتحوَّل الأخطاءُ الصغيرة إلى شراراتٍ تُشعِلُ نارَ الخِلافاتِ القديمة.
فالغُفرانُ ليس مُجرَّد فِعلٍ أخلاقيّ، بل هو عمليةٌ معقّدة لإعادةِ بناء السَّرديّة المُشتركة بينَ الذّات والآخر، فمعَ القريب، يكونُ الصّفح بمثابةِ مُراجعةٍ جَذريّة لتاريخٍ طويلٍ منَ التّوقّعات والذّكريات، أمّا مع الغريب، فلا تُوجدُ هذه السَّردية، فيبقى الصّفحُ فِعلًا فرديًّا لا يُهدّد بُنية الذَات أو الجماعة. 
 تتجلّى هذه الظاهرة بِوُضوح في عَلاقات الدُّول، خاصّة بين دُول الجِوار التي تَجمَعُها روابِط عِرقيَّة أو دينيّة أو تاريخيّة. فغالبًا ما تكونُ العلاقاتُ بين هذه الدول أكثرَ توترًا وحِدّة من عَلاقاتها مع دُولٍ بعيدةٍ ومختلفةٍ عنها. فالقُربُ الجُغرافيّ والتّشابُه الثقافي يخلِقان حالةً من التنافس والغيرة، وتراكُمًا للذكريات المُؤلمة، فيتحوَّل الخِلاف الصَّغير إلى صراعٍ وُجودي، وتُصبح كلُّ زلةٍ أو إساءةٍ رمزًا لخيانةٍ كُبرى أو تهديدٍ للهويّة الجمعية. ففي كثيرٍ من الأحيان، نجدُ أنّ الدول تتسامحُ مع أخطاء أو حتى اعتداءات الدُول البعيدة، بينما تحتفظُ بمرارةٍ عميقةٍ تُجاه جيرانها، خاصّة إذا كانوا مِن نفسِ العِرقِ أو الدّين، لأنّ التّشابه هُنا يَخلق حالة من المقارنةِ المستمرة، ويجعل كلُ خلافٍ يبدو وكأنّه خِيانة للهويّة المُشتركة. وهكذا، كما في العائلة، يُصبح الجارُ هو الخَصم الأصعب، لا لأنَّ الخلاف أعظم؛ بل لأن الجُرحَ أعمقُ وأقربُ إلى القلب.
إنّ فهمنا لهذِه الظاهرة يدعونا إلى مُراجعة علاقتنا بذواتِنا وبالآخرين، أفرادًا وجماعات، فرُبَّما يكونُ الطّريق إلى سلامٍ أعمقَ هو في القُدرة على خفض سقف التَّوقعات، وتَفريغ الذّاكرة من تراكُمات جراحات الماضي، وإعادة تأطيرِ الأخطاءِ في سياقِها الإنسانيّ، لا في سِياقها الرّمزي أو الوُجوديّ، عندها؛ يصبحُ القربُ مصدر قوّة ووئام، لا سببًا للانقسامِ والخصام.